محمد الباز يكتب: وهم الباحثين عن معجزة علمية فى القرآن (القرآن في مصر 10)

نقلاً عن البوابة

ما الذى قاله مصطفى محمود فى كتابه ” القرآن… محاولة لفهم عصرى”، وأثار حوله كل هذا الجدل؟

بدأ بكلام يمكن أن تقرأه عند كثيرين عن بداية علاقته بالقرآن الكريم.

دعك من المبالغات التى يمكن أن تقابلها فى كلامه.

فطبقا لما قاله، كان أول لقاء له مع القرآن وهو فى الرابعة من عمره، طفلا يجلس فى صف بين عدة صفوف فى كتاب الشيخ محمود، يحملق فى بلاهة إلى سبورة، وإلى مؤشر يتحرك فى يد الشيخ على كلمات منقوشة بالطباشير وهو يتلو..” والضحى والليل إذا سجى”… فيرددون خلفه فى آلية ” والضحى والليل إذا سجى”.

لا يفهمون من الكلام حرفا.

ولا يعلمون ما هو الضحى ولا كيف سجى، ولكنهم يرددون مقاطع ومخارج حروف.

كان عقله وقتها صفحة بيضاء نقية لم يكتب عليها شئ، ولم تتلق تأثيرا تربويا خاصا، فقد نشأ فى أسرة كل فرد فيها متروك لحاله، يحب ما يحب، ويكره ما يكره، ويلعب حتى يشبع لعبا.

تلقى مصطفى محمود أول عبارة من القرآن إذن بذهن أبيض تماما ودون تأثير مسبق من أحد، بهرته حكاية الكرة الأرضية والقارات كالجزر سابحة فيها، أدهشته حكاية القمر يدور حول الأرض، والأرض حول الشمس، والكل معلق فى السماء.

ظل حائرا حيال الشعور الذى تلقى به أول عبارة قرآنية، ولم يجد – ربما طوال حياته – كلمات لتشرح هذا النوع من الاستقبال النفسى الغامض، لكنها الكلمات نفسها كانت تعود من تلقاء نفسها فتراود سمعه وذاكرته وهو وحده، فيردد بلا صوت” والضحى والليل إذا سجى”.

فى طفولته كان تخياله صورة الرجل الذى ” جاء من أقصى المدينة يسعى”، دون أن يعرف شيئا عن هذا الرجل، ولا من أين جاء، ولا لماذا يسعى، لكنه كان ينفعل بفعل الحركة فى الآية.

هل لنا أن نمسك بأول خيط لمدخل مصطفى محمود المختلفى إلى القرآن.

يقول هو:” كانت المقاطع تترد فى سمعى أشبه بمقاطع سلم موسيقى ( صول لا سى دو رى مى فا )، مجرد حروف لا معنى لها ولا وقع سوى مدلولها الموسيقى، مجرد نغم ومازورات موسيقية وإيقاع يطرب الوجدان.

اكتشف من وقتها – كما يقول هو – الموسيقى الداخلية الباطنة فى العبارة القرآنية.

وبعد أن تكون وعيه الكامل استقر على أن هذه الموسيقى سر من أعمق الأسرار فى التركيب القرآنى، هو ليس بالشعر ولا بالنثر ولا بالكلام المسجوع، هو معمار خاص من الألفاظ التى صفت بطريقة تكشف الموسيقى الباطنة فيها، وفرق كبير بين الموسيقى الباطنة والموسيقى الظاهرة.

عرف مصطفى محمود أن القرآن كتاب مختلف، تاه كثيرا بعيدا عنه، تردد، شك، ألحد أو أدعى ذلك، وكان عليه أن يقضى من عمره ما يقرب من خمسين عاما حتى يدخل له مدخلا مختلفا، فقد ألف كتابه ” القرآن محاولة لفهم عصرى” وهو على مشارف الخمسين.

****

ما الذى رآه مصطفى محمود مختلفا فى القرآن الكريم.

توالت طبعات الكتاب من العام 1970، وحتى آخر طبعة بين يدى صدرت عن دار أخبار اليوم فى العام 2015.

يقول مصطفى محمود فى تقديمه للكتاب، وهو تقديم يعتبر تلخيصا وافيا له.

” القرآن كتاب المسلمين المعجزة لا يزال يتحدى العقول بعد ألف وأربعمائة عام من نزوله، وكأنه نزل اليوم ليتحدث عن علوم اليوم وشواغل اليوم وأسرار اليوم وحروب اليوم، فبين دفتيه سوف يفاجأ كل شغوف بعلوم الفلك والطبيعة والجيولوجيا والطب والتشريح والحياة بلمحات من هذه العلوم، وبالجديد فى علوم الباطن والنفس والروح وما وراء الطبيعة، وبالجديد فى عوالم الغيب وخفايا الزمن والمكان والمادة، وبالجديد المبهر فى الأخلاق والدستور والشرائع والأديان”.

وحتى يدلل مصطفى محمود على ما يقوله، يثبت الآتى:

أولا: ظل علماء الفلك يتحدثون عن سبعة كواكب تدور حول الشمس، حتى نزلت آيات القرآن تتحدث عن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر فى سورة يوسف ” إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين”… وقد رصدت التلسكوبات الفكلية بالفعل أحد عشر كوكبا تدور مع الأرض والقمر على أبعاد متفاوتة حول الشمس.

ثانيا: لم يكن أحد من العرب القدامى أيام الجاهلية يعلم شيئا عن البصمة المرسومة على طرف البنان، والتى ينفرد بها كل مولود لتدل على شخصيته التى لا يشاركه فيها مخلوق حتى آخيه التوأم، فإذا بكل إنسان له بصمته التى ينفرد بها، فيقول القرآن عن يوم البعث الذى كان يشك فيه الجاهليون إن يوم القيامة سوف تقود الأجساد من قبورها، وسوف يعود الموتى إلى سالف هئيتهم، ويقول لهذا الجاهلى ” أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه، بلى قادرين على أن نسوى بنانه”.

يخص القرآن البنان بالتسوية لأنه الحامل للبصمة المعجزة الدالة على شخصيته المتفردة التى لا تتكرر، والتى سوف تعود إليه يوم البعث، فهل كان العرب الأوائل يعلمون شيئا عن هذا؟

لم يكونوا يعلمون بالطبع، ولم يكن العرب ولا الفرنجة فى أوربا ولا فى أمريكا يعرفون شيئا عن هذه البصمة، فنزلت كلمات القرآن قبل ألف وأربعمائة سنة لتعلن عنها.

وعليه فقد كانت البصمة على البنان إعلاما قرآنيا بحتا.

ثالثا: هل كان علماء الأرض يعلمون وقت نزول القرآن أو حتى لقرون بعده أن كل جبل له جذر ممتد تحت الأرض أكثر منه غلظة كالوتد ثباتا ” والجبال أوتادا”… وأن هذه الجبال موزعة على محيط الأرض بشكل محسوب، ومقدر كثقالات ليكون دوران الأرض منتظما، وهذه قضية معلومة فى الميكانيكا والحركة، فهذه الثقالات الدائرة على الأطراف هى التى تنظم الحركة وتجعل الحركة منسابة غير قلقة.

رابعا: كانت آية ” وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس”… مفاجأة قرآنية تامة، فقد جاءنا الحديد من السماء، وكان ذلك بعملية تعدين سماوى خاص لعنصر الحديد، ونعلم الآن أن ذلك يحدث بالفعل عن طريق انفجار النجوم المستعرة شديدة الحرارة ” السوبر نوفا”، وبسبب شدة حرارتها فإنها تقذف إلى الأرض بدقائق ذرية مكهربة كالسهام تخترق الأرض وتصل إلى معادنها الباطنة، وبفعل طاقتها الإنفجارية الزائدة تؤدى إلى خلق الحديد بذراته المتدامجة المتماسكة شديدة الصلابة التى نعرفها، فيعاد إنشاء جزئيات الحديد على هذه الصورة الصلبة المتدامجة.

خامسا: عشنا اللحظة التى أعلن فيها عن فض رموز ” الجينوم البشرى” الذى يتألف من ثلاثة مليارات حرف كيميائى، وهو ما يملأ خمسة ملايين صفحة مدونة، وكل هذا فى حيز صغير متناهى الصغر فى نواة الخلية ( بضعة أجزاء من المللى)، تحتوى على مقدرات هذا المخلوق الإنسانى وصفاته البدنية وحظه من الصحة والمرض والقوة والضعف ومواهبه وملكاته وما سيجرى عليه من أحوال، وكل هذا مدون بالتفصيل فى مخطوطة شاملة لا تكاد ترى إلا بميكروسكوب الكترونى، معلومات تملأ خمسة ملايين صفحة فى حيز متناه فى الدقة لا يرى.

جاء مصطفى محمود بالآية الكريمة:” وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون، وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون”، ليقول بعد ذلك أن هذا إشهاد صريح ومفصل.

ويواصل: الله يروى فى قرآنه عملية الإشهاد، كما يحكى عن هذا المانفستو الإلهى الذى اسمه ” الجينوم البشرى”، وكيف أن كل مولود جاء ومعه قصته وحكايته من الأزل، مكتوبة فى خلاياه ومسطورة فى جيناته.

وطبقا لما يرآه مصطفى محمود: الإشهاد بهذا المفهوم الجديد أوسع وأشمل مما جاء فى كتب التفسير القديمة، فقد اشتركت كلها فى المظاهرة الشهودية ، وكانت حديث الساعة وموضوع التفاخر والاستعلاء بالنسبة لعلماء الغرب، وقد اتخذوا منه حجة على موقفهم من الدين، مع أنه حجة عليهم وليس لهم، فهذا كتاب لا يمكن أن يكتبه مخلوق، ولا مفر ولا مهرب من القول إن الذى كتب هو الذى خلق، لأن الكتابة جاءت فى صميم الخلقة وفى الحشوة المخلوقة ذاتها، وبالحروف الكيمائية لنفس المخلوق، وهو عمل معجز لا يقدر عليه إلا الخالق  الذى خلق.

اعتبر مصطفى محمود أن إعلان خريطة الجينوم البشرى يوم إشهاد عالمى على عظمة القرآن وشموله وإحاطته وإعجازه وخلود آياته وقدرته على الحضور فى كل عصر، ” وأشهدهم على أنفسهم” وهذا ما حدث بالفعل، فقد شهد العالم من أدناه إلى أقصاه حكاية هذا الجينوم البشرى، وما زالت الأيام تأتى بما يؤكد روعة هذا الكتاب وإعجازه واستباقه لما حدث ويحدث بطول أربعة عشر قرنا من الزمان.

*****

على طول الكتاب وعرضه لن تجدا إلا هذا المنهج.

يقدم مصطفى محمود ما يمكن إعتباره تفسيرا علميا للقرآن الكريم، لكن ولأنه لم يكن عميقا فى العلم بما يكفى، فقد سار على الأمور من على سطحها فقط، وأعتقد أن هذا ما أحدث لبسا، فلم يعرف أحد على وجه التحديد هل ما قدمه فى محاولة فهمه العصرى للقرآن تفسير علمى أم صوفى، تهويمات وشطحات حاول أن يجر بها شكل المتخصصين والكهنة، أم أنها رؤية مستقبلية فى التفسير سيسير خلفها كثيرون، وهو ما جرى من بعده كثيرا؟.

كانت خطوة جرئية من مصطفى محمود.

مشروع بدأه بكتابه ” القرآن محاولة لفهم عصرى”… ثم أكمل طريقه بكتابيه ” القرآن كائن حى”، و” من أسرار القرآن”… لم يحظ الكتابان الآخران بالإهتمام الكاف، أو الجدل المناسب، لأن الطلقة كانت قد خرجت فى الكتاب الأول، ولأن الكتابان أيضا لم يقدما بناءا متكاملا لدراسة جديدة، بقدر ما كانا تجميعا لموضوعات شتى، وأعتقد أن هناك من كان يستغل هذه الكتب.

فى كتابه ” من أسرار القرآن” فصل رائع اسمه ” علم نفس قرآنى”… ويبدو أن هناك من استطيب الاسم، فأصدر كتابا كاملا يحمل اسم مصطفى محمود، بعد إضافة كلمة واحدة، فأصبح اسمه ” علم نفس قرآنى جديد”.

*****

ما الذى أراده مصطفى محمود من هذه المحاولة التى جرت عليه المشاكل؟

دع عنك جانبا رغبته فى أن يظل فى دائرة الضوء دائما.

ودع عنك أنه أقدم على الكتابة لأنها مهنته.

ودع عنك أنه كان يتعامل مع القرآن الكريم كموضوع دراسة وليس تعبد، حتى لو قال غير ذلك.

إننى أسال عن القيمة التى أضافها.

ما حدث أن مصطفى محمود بما فعله، وهو يدخل أكثر تحت بند الإعجاز العلمى فى القرآن، كان يكشف عجزا كامنا فى هذه الأمة، ويشير إلى عورات بشر تكاسلوا، فلم يبذلوا ولو جهدا عابرا ليكشفوا أسرار كتابهم العظيم.

كنت أجلس فى مدرجات كلية الإعلام، يحدثنا أحد أستاذتنا الكبار، وإذا به يقول: علماء الإعلام دول حاجة غريبة جدا، بيتكلموا عن نظرية إن الإعلامى لازم يكون من البيئة اللى هيعمل فيها، عشان يبقى عارف مشاكل الناس اللى هيتكلم معاهم وعنهم، ومش واخدين بالهم إن القرآن سبقهم فى النظرية دى من ألف 400 سنة.

ولما وجدنا منصتين باهتمام، قال: أيوه، هو القرآن الكريم مش قال: “رسولا منهم”… يعنى واحد منهم عارف مشاكلهم ويقدر يتكلم بلسانهم، مش عارف الناس دى بتتعب نفسها ليه، وكل حاجة موجودة فى القرآن؟

فى لحظتها تبلورت الفكرة أمامى، لم أتحدث معه، ولم يتحدث معه الآخرون، وأذكر أيضا أن أحدا لم يبد إعجابه بما قاله.

كان السؤال الأهم الذى ظل يطاردنى طويلا هو: إذا كان كل شئ جاء فى القرآن بهذه الصورة، فلماذا لم يجتهد علماء المسلمين، ويستخرجوا أسرار كتابهم بأنفسهم، لماذا لا يقدمون بحوثا، والقرآن بينهم آناء الليل وأطراف النهار؟

لماذا ينتظرون حتى تخرج النظرية أو المعلومة من الغرب، فيصرخون فى وجه من عمل بأنه لم يأت بجديد، وأن القرآن قال كل شئ؟

ستظل هذه إشكالية مستمرة، لن نجد لها حلا بسهولة، غرب يعمل ويجتهد ويكتشف ويخترع، ونمارس نحن عليه أقسى عمليات الرخامة، عندما نقول له: قديمة… وردت فى كتابنا من قرون.

لقد أحرز مصطفى محمود شهرة عريضة من كتابه ” الله والإنسان” صادره الأزهر، واتهم بالإلحاد”… ومع كتابه ” القرآن محاولة لفهم عصرى” تضاعفت الشهرة لدى العامة – هولاء الذين يلعنون كل من يقول لهم الكهنة أنه تطاول على القرآن الكريم، حتى لو لم يقرأوا شيئا مما كتبه، أو يسمعوا لشئ مما قاله – وكانت شهرته قد تصاعدت بسبب رواياته وكتاباته العاطفية، فقد كان يحرر فى مجلة صباح الخير بابا مميزا، جمع كثيرا مما نشره فى كتابه ” 55 مشكلة حب”.

لكن الشهرة الأكبر فى حياة مصطفى محمود جاءت من برنامجه ” العلم والإيمان”… ظهر البرنامج فى أواخر عصر الرئيس السادات الذى كان هو الآخر يرفع شعار دولة “العلم والإيمان”، بأسلوبه البسيط المميزاستطاع أن يجعل البسطاء جمهورا له، رغم أن كثيرا مما يقوله كان صعبا ومعقدا.

كان اللافت فى برنامج مصطفى محمود أنه يدلل على ما يقوله فى صلب الإيمان بأفلام تسجيلية ينتجها الغرب، الذى يسخر منه طوال البرنامج ويسيئ إليه، لكن لم يكن أحد يلتفت إلى هذه المفارقة.

المفارقة الأهم فى هذا السياق أن كثيرين من متابعى مصطفى محمود كانوا يلقبونه بالشيخ، لا يعرفون شيئا عن خلفيته الدينية، لكن طالما أنه يتحدث فى الدين فلابد أن يكون شيخا، حتى لو كان بلا عمامة.

هناك مفارقة ثالثة.

فبعد وفاة الشيخ الشعراوى فى العام 1998، جرت عملية بحث عن خليفة له، يملأ الفراغ الذى تركه، الترشيحات أتت جميعا على علماء ومشايخ الأزهر، ولم يكن هناك ما يمنع قبولها أو التعاطى معها.

لكن الغريب أن مصطفى محمود كان من المرشحين لخلافة الشعراوى، وكأن هناك من كان ينتظر منه تفسيرا كاملا للقرآن، رغم أنه لم يقدم إلا ما يعتبره البعض تحرشا فكريا بالنص المقدس، حصد منه ما أراده، ثم تركه تراثا لا يلتفت له كثيرون، فرغم أنه كان مبدعا فى فكرته وما كتبه، إلا أن قوة التراث لا تزال متمكنة من الجميع… ولذلك نميل إلى ابن كثير والقرطبى والطبرى أكثر مما نميل لمن حاولوا أن يضعوا كتاب الله المقدس على مائدة العصر…وتلك هى مشكلتنا الكبرى التى لن تغادرنا بسهولة.

نرشح لك

محمد الباز يكتب: الملحد الذى كتب تفسيرا عصريا للقرآن الكريم (القرآن في مصر 9)

بالساعة والدقيقة.. مواعيد مسلسلات رمضان 2016

شارك واختار .. ما هو مسلسل الكرتون الذي تتابعه بانتظام؟ أضغط هنـــا

بنر الابلكيشن