في غرفة مظلمة، تقضي فتاة في بداية الثلاثينات معظم ساعات يومها، بعد أن تبلدت من اتهامات أسرتها لها بالدلع، ويوم بعد يوم تزداد حالتها سوء ويزداد تقوقعها على نفسها، وهي لا تدرك ما يحدث لها فلا تري إلا الظلام ولا تسمع إلا الصراخ، صحبتها أمها إلى الشيخ لعلاجها بالقرآن فلم تستجب، ضربها أخيها حتى يرجعها لعقلها فلم ترجع, وانتهى حالها إلى هذه الغرفة وقد نسيها الجميع وهي من الأساس لم تكن تتذكرهم، فأين الكآبة ؟؟
“أنا مش عاوزة الناس تعيط أو تكتئب ..أنا عاوزة الناس تفكر.. ده مش كآبة ده الواقع والواقع أكئب بكتير” هذا ما قالته السيناريست مريم نعوم عن مسلسلها سقوط حر، والذي أعتبره أول عمل فني متكامل وحقيقي بدون مبالغة أو تهكم أو تزييف عن حياة المرضى النفسيين في مصر، وقد جسدت الفنانة نيللي كريم شخصية “ملك”، التي تعاني من الكتاتونيا وتتهم بقتل زوجها وأختها بإبداع شديد وتمكن وبالرغم من الإيقاع البطيء للمسلسل، إلا أنه يضع المشاهد في حالة المريض ليشعر به وبألمه وبوحدته وببطيء إيقاعه.
ملك ليست المريضة الوحيدة التي تعيش في عنبر المودعات بمستشفى الأمراض النفسية بالعباسية، إنما يصحبها مجموعة من السيدات خلف كل منهن قصة وألم ووجع لا يشعر به أحد، هالة تلك الشابة التي تعيش في إنكار قتلها لحبيبها والتي جسدتها فرح يوسف، وهبه عبدالغني، التي قدمت شخصية صابرين التي ترفض اسمها وتبحث عن حق ابنتها والتي تشبه مئات الأمهات في مصر, أما سلوى عثمان، الحصان الرابح التي تقدم السهل الممتنع والتي يرفض أهلها خروجها من المستشفى بالرغم من تحسن حالتها، وغيرهن الكثيرات الذي تعرض المسلسل لحالتهن الصحية والقصص الإنسانية التي تقف خلف وجودهن فيها . فأين المبالغة ؟
خارج سور المستشفى، حيث يوجد العقلاء كما نعتقد جميعا، تجسد صفاء الطوخي شخصية الأم والتي تشبه الملايين من الأمهات المصريات، تعيش بين حزنها وقوتها وإصرارها على أنها فقط صاحبة الحق والرؤية الصحيحة، ولم تدعم يومًا ابنتها عندما عبرت عن مخاوفها من إصابتها بالاكتئاب واتهمتها بالدلع، وزوج الأخت الذي أداه الممثل أحمد وفيق بهدوء وتمكن يستفز المشاهد ويجعله يتساءل كيف يتمالك أعصابه ويقف إلى جوار قاتلة زوجته بالرغم من أني أتوقع أن تكشف الأحداث عن خيط جديد في شخصيته تبرز حقيقتة، الطفل الذي يؤدي شخصية ابن ملك يعيش في صراع فقدان الأسرة والدعم النفسي والمعنوي مثل الألاف من الأطفال المصريين . فأين التزييف ؟؟
16 مليون مريض نفسي مصري، هذا هو الرقم الذي أعلنته الأمانة العامة للصحة النفسية, ويبقى المريض النفسي طوال عمره يعاني من وصمة المجتمع له بالجنون والاضطراب، ويظل الكثيرين منهم حبيسي المصحات النفسية نتيجة رفض أهلهم لوجودهم وخروجهم للحياة حتى وإن تحسنت حالتهم وشفيوا تماما من أمراضهم. فأين حقهم ؟؟
سقوط حر يدق ناقوس الخطر للمجتمع الذي أصبح افتراضيًا ولا يعترف بهمومه ومشكلاته الحقيقية، فبحسب إحصائيات عام 2015 لمنظمة الصحة العالمية، فمصر من الدول التي يعاني شعبها من أخطر الأمراض النفسية وتتزايد معدلاتها بصورة غير طبيعية في السنوات الخمس الأخيرة مما أدى إلى تزايد معدلات الانتحار وارتفاعها إلى 5 % عن عام 2004 .
الفن يُسلي المشاهد ويمتعه، ولكنه يقترب من مشكلاته ويوعيه ويجلعه يفكر, وإلا لأصبح بلا قيمة ولا معنى ولا حقيقة, والحقيقة أن المرضى النفسيين في مصر، حقوقهم ضائعة ولا يشعر بوجودهم ولاوجعهم أي شخص، وقد يكون محظوظ منهم من يجد شخص يقف إلى جوراه ولا يتهمه بالدلع ويقول له “قوم صلي وهتبقي كويس”، وحتى لا نسقط جميعا “سقوط حر”، يجب أن نفتح أعيننا على أحبائنا وندعمهم في وجعهم وألمهم ولا نتردد في الوقوف إلى جوارهم قبل أن يتحولوا إلى سطر في جريدة عن حادثة انتحارهم، ونرى من يتهكم اليوم على كآبة نيللي كريم، يبكي على وفاة حبيب أو صديق أو أخ أو ابن، طلب منه الدعم والمساندة ولم يجده .
نرشح لك
بالساعة والدقيقة.. مواعيد مسلسلات رمضان 2016
شارك واختار أي من هذه البرامج أو المسلسلات تتابعها وقت الإفطار؟ أضغط هنـــا