محمد الباز يكتب: الغزالى يرسم صورة شمسية لسورة الفاتحة (القرآن في مصر 13)

نقلاً عن “البوابة”

للشيخ محمد الغزالى جهود كثيرة فى مساحة تفسير القرآن الكريم، ويمكن أن نحدد فى هذا السياق أربع محاولات مهمة من خلال كتب معروفة ومنتشرة.

الكتاب الأول هو “المحاور الخمسة للقرآن الكريم”.

يحددها الغزالى فى الله الواحد، الكون الدال على خالقه، القصص القرآنى، البعث والجزاء، والتربية والتشريع… ويعتبرها أمهات لمسائل أخرى كثيرة تندرج تحتها، ذهب المسلمون بعيدا عنها وذهبوا يعالجون تفسير القرآن معالجة جزئية حرفية دون أن يبسطوا الحقائق القرآنية الكبرى بسطا يرتفع إلى مستواها، ويستمد منها القيم القرآنية التى وضعها الله لتقود المسلمين بالقرآن إلى ما هو أقوم.

الكتاب الثانى هو “نظرات فى القرآن”.

يقدم الغزالى فيه جملة معرفة حسنة عن القرآن، تضمنت ثمرات من غرس الأئمة الأقدمين والعلماء المحدثين، وشدها جميعا نظام يوائم الأسلوب الذى استحلاه المثقفون اليوم، وألفوه فى مجالى العلم والأدب، وقد مس هذا الكتاب قضايا دينية واجتماعية تشغل بال المسلمين خاصة وبال العالم كله، فالقرآن نفسه كتاب لا يستطيع أحد عزله عن الحياة أبدا، فهو لم ينزل من السماء إلا ليصوب أفكار الأرض.

يظهر القرآن فى هذا الكتاب كائنا حيا مفعما بالحركة المتجددة على الدهر، ولكنها الحياة القائمة على الحق، الدارجة على الصراط المستقيم.

الكتاب الثالث هو “كيف نتعامل مع القرآن؟”

قدم فيه الغزالى دراسة حول منهج فهم القرآن، وقضايا تفسيره وتأويله وتصنيفه وتبويبه وعلاقاته بعلوم المسلمين قديما وحديثا، وكيفية جعله المصدر الأول لثقافة المسلم المعاصر، ومعرفته وعلمه وتوجيهه، مما يمكن العقل المسلم من العودة إلى التعامل السليم مع القرآن العظيم، ويعيده إلى مركز الدائرة فى ثقافة المسلم المعاصر ومعرفته وحضارته، ليستعيد العقل المسلم عافيته، ويسترد القرآن دوره فى عطائه وإنارته.

الكتاب أيضا محاولة من الغزالى لاستدعاء القرآن فى إطار واقع عالمى متغير بوعى جديد، وتكمن أهميته فى أنه حاول أن يصحح كثيرا من المفاهيم المتعلقة بالتعامل مع القرآن فى الموضوعات الإسلامية كخطوة أولى يؤسس بموجبها الوعى المنهجى الإسلامى المعاصر.

كل هذه الكتب يمكن التعامل معها على أنها كانت مقدمات وتوابع لكتاب مهم جدا أصدره الشيخ الغزالى، اسمه: “نحو تفسير موضوعى لسور القرآن الكريم”، وهذه هى المحاولة الرابعة.

ما كتبه فيه ليس تفسيرا كاملا، لكنه وضع ما يشبه المنهج للتفسير.

من المهم أن نتعرف أولا على ملامح ما كتبه الشيخ.

مقدمة الكتاب اختلط فيها الذاتى بالموضوعى.

قال الشيخ: هذه دراسة جديدة للقرآن الكريم، سبق أن قدمت نماذج منها فى بعض ما كتبت، وقد لازمنى شعور بالقصور وأنا أمضى فيها، فشأن القرآن أكبر من أن يتعرض له مثلى، ولكنى حرصت على أن أزداد فقها فى القرآن وتدبرا لمعنيه، وقلت: قد أرتاد طريقا لم أسبق إليه، أفتتح به بابا من أبواب الخير، والقرآن لا تنقضى عجائبه، ولن نبلغ مهما بذلنا مداه”.

يحدد الغزالى الهدف الذى سعى إليه من خلال تقديمه لتفسير موضوعى لكل سورة من سور القرآن الكريم، ويفرق بين التفسير الموضوعى والتفسير الموضعى، فالأخير يتناول الآية أو الطائفة من الآيات فيشرح الألفاظ والتراكيب والأحكام.

أما التفسير الموضوعى، فيقول عنه الغزالى: “يتناول السورة كلها، يحاول رسم صورة شمية لها تتناول أولها وآخرها، وتتعرف على الروابط الخفية التى تشدها كلها، وتجعل أولها تمهيدا لآخرها، وآخرها تصديقا لأولها.

اهتم الغزالى عناية شديدة بوحدة الموضوع فى السورة، وإن كثرت قضاياها، وتأسى فى ذلك بالشيخ محمد عبد الله دراز عندما تناول سورة البقرة – وهى أطول سورة فى القرآن الكريم – فجعل منها باقة واحدة ملونة، يعرف ذلك من قرأ كتابه “النبأ العظيم”… وهو أول تفسير موضوعى لسورة كاملة.

ولأن علماء القرآن أجهزة استقبال لما يؤتيهم الله من فهم فيه، فقد شعر الشيخ الغزالى – على ضوء ما أحس من نفسه – أن المسلمين بحاجة إلى هذا اللون من التفسير.

أما كيف وصله هذا الشعور؟

فيقول: لقد صحبت القرآن من طفولتى، وحفظته فى سن العاشرة، وما زلت أقرؤه، وأنا فى العقد الثامن من العمر، وبدا لى أن ما أقبس من معانيه قليل، وأن وعيى لا يتجاوز المعانى القريبة والجمل المرددة، فقلت: إنى ما قضيت حق التدبر فيه كما أمر منزله العظيم، يجب أن أغوص فى أعماق الآية لأدرك رباطها بما قبلها وما بعدها، وأن أتعرف على السورة كلها متماسكة متساوقة.

لم تكن التجربة سلسلة فيما يبدو.

يقول الغزالى: شعرت بأن همتى دون هذه المهمة، وكدت أتوقف، ثم قلت: لأن أقطع شوطا أو شوطين فى هذا الطريق أفضل من أن أستسلم للعجز فى المراحل الأولى، ولكن الله أعان ووفق فقطعت الطريق وبلغت نهايته.

أعتقد أن الغزالى لم يتغلب بسهولة على العقبات النفسية التى أحاطت به وهو يعمل، ولذلك لا أنكر عليه ما قاله: فلو سأل سائل: أين وحى الله فى هذا العصر؟

ويجيب الشيخ: أنا مستكشف قاصر، وإن الوادى الذى أستقى منه يسيل على قدرى أنا – وهو محدود – ولكنه يحث الخطى إلى ما هو أبعد، ويحدو أولى الألباب إلى الشأن الأعلى فى خدمة القرآن، وإماطة اللثام عن روائعه وبدائعه.

هل وصلنا إلى المنهج الذى عمل به ومن خلاله محمد الغزالى؟

يقول عنه: إننى أختار من الآيات ما يبرز ملامح الصورة، وأترك غيرها للقارئ يضمها إلى السياق المشابه، وذلك حتى لا يطول العرض ويتشتت، والإيجاز مقصود لدى، وأنبه إلى أن هذا الموضوعى لا يغنى أبدا عن التفسير الموضعى، بل هو تكميل له وجهد ينضم إلى جهوده المقدورة، وهناك معنى آخر للتفسير الموضوعى لم أتعرض له، وهو تتبع المعنى الواحد فى طول القرآن وعرضه وحشده فى سياق قريب، ومعالجة كثير من القضايا على هذا الأساس.

يجزم الغزالى بأن الدراسات القرآنية تحتاج إلى هذا النسق الآخر، بل يرى البعض أن المستقبل لها، وعلى كل حال فالقرآن الكريم دستور الإسلام ومعجزته الباقية، والمورد الذى يتردد عليه المسلمون فتتجدد حاجتهم إليه حتى آخر الدهر.

****

لم يكن الشيخ محمد الغزالى هو الرائد فيما يسميه التفسير الموضوعى للقرآن إذا، كان هناك الدكتور محمد عبد الله دراز.

دراز واحد من علماء الأزهر الشريف الكبار، معظم عمره وضعه فى خدمة القرآن، ولد فى العام 1894، ومن بين ما قام به، أنه سافر إلى فرنسا فى بعثة أزهرية فى العام 1936، وحصل من هناك على درجة الدكتوراه، بعد أن كتب رسالتين، الأولى بعنوان “التعريف بالقرآن” والثانية عن “الأخلاق فى القرآن”… انتهى منهما فى العام 1947، وحصل بهما على دكتوراه الدولة من جامعة السربون بإمتياز مع مرتبة الشرف الأولى.

عاد على الفور إلى مصر، انتدب لتدريس تاريخ الأديان بجامعة القاهرة، وحصل على عضوية جماعة كبار العلماء فى العام 1949، ثم ندب لتدريس التفسير بكلية دار العلوم واللغة العربية بالأزهر، وتدريس فلسفة الأخلاق فى كلية اللغة العربية.

كان أول ظهور لمنهج التفسير الموضوعى فى القرآن على يد عبد الله دراز فى العام 1957، من خلال كتابه “النبأ العظيم… نظرات جديدة فى القرآن”… عندما أصدره قبل عام واحد من وفاته.

يقول دراز عما فعله: الجزء الأول من كتاب “النبأ العظيم” مولود جديد قديم، جديد فى مقطعه ونهايته، قديم فى مطلعه وبدايته”… كان مسقط رأسه فى الحرم الجامعى، منذ نيف وعشرين عاما، ولكنه لم يبرز منه يومئذ إلا عنقه وصدره، أما أطرافه فلم تنشأ، وأما خلقه فلم يكتمل إلا اليوم.

ويكمل دراز: هذه بحوث فى القرآن الكريم، قدمتها بين يدى دروس التفسير لطلبة كلية أصول الدين بالجامع الأزهر المعمور، أردت بها أن أنعت كتاب الله بحليته وخصائصه، وأن أرفع النقاب عن جانب من الحقائق المتصلة به، وأن أرسم الخطة التى ينبغى سلوكها فى دراسته.

****

هل تريدون تدليلا على المنهج الذى بدأه عبد الله دراز وأكمله الشيخ محمد الغزالى؟

ولمَ… هنا أسجل ما قاله الغزالى كاملا فى تفسير سورة الفاتحة.

وهذا هو النص الكامل.

“سورة الحمد (الفاتحة) من قصار السور ولكنها أم الكتاب وأعظم سوره، تضمنت خلاصة وجيزة لعقائد الإسلام، وعهدا وثيقا بين الناس وربهم يحقق رسالتهم فى الوجود، ورجاء فى الله أن يهدى الطريق، ويمنح التوفيق، وينعم بالرضا.

ولننظر فى الآية الأولى “الحمد لله رب العالمين”.

الحمد لفظ تلتقى فيه معان ثلاثة، فهو ثناء يكشف عن أمجاد الذات العليا من جلال وجمال وكمال، وهو مديح على ما ننال من عطاء ونعماء، جاد بها ولى النعم، وهو شكر يقابل الخير النازل والفضل المسدى.

وعندما نصبح فنقول مثلا “الحمد لله الذى أحيانا من مماتنا وإليه النشور”… فنحن نثنى ونمدح ونشكر.

“ورب العالمين” سيد العوالم كلها من العرش إلى الفرش، من السماء إلى الأرض، من الحيوان إلى النبات، من الملائكة إلى البشر.

والعالم ما عدا الله من خلق، وما عدا الله مربوب له فقير إليه.

نعم كل ما عدا الله عبد له، صنيعة نعمته، “فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله الكبرياء فى السماء والأرض وهو العزيز الحكيم”.

“الرحمن الرحيم”… نحن فى رحمته نعيش، والرحمة والعلم يسعان كل شيء، ولولا أن الله غفور رحيم لفتكت بنا معاصينا وقضى علينا جحودنا وطغياننا.

“مالك يوم الدين”… المقصود بالدين الجزاء وهو بداية العالم الآخر، والعالم الآخر هو المقابل لعالمنا المعاصر.

والحضارة المادية المسيطرة على الحياة الآن قلما تذكره، بل لعلها ترى من الهزل ذكره.

وهى تتعمد نسيانه فى ميادين التربية والتشريع والسياسة الدولية والمحلية مع أنه الحقيقة العظمى، الأجدر بالرعاية والحساب.

“إياك نعبد وإياك نستعين”… نعبدك وحدك يا الله، ونستعين بك لا بغيرك، فكل غير محتاج إليك، كما جاء فى السنة “اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك”، ” إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله”.

“اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم”… الخط المستقيم أقصر طريق بين نقطتين، ولذلك لا يتعدد، ومن استقام اهتدى إلى الله “إن ربى على صراط مستقيم”.

ودين الله واحد، بلغة الأنبياء على اختلاف الأعصار والأمصار، أساسه إله واحد، له الولاء وله الثناء، يفتقر إليه أهل الأرض وأهل السماء.

ولعل هذه النقطة مثار الخلاف بين أتباع الأديان المعاصرة، فالمسلمين يوقنون بأن ما عدا الله عبد له خاضع لحكمه وأمره فى الدنيا والآخرة.

ويستحيل أن يتجاوز هذه الحقيقة بشر أو ملك، فمن لزمها نجا ومن زاغ عنها هلك.

وكل من أحسن طاعة الله ورسله بلغ هذه الغاية “ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا”.

أما من أشرك بالله شيئا، أو رفض الانقياد لأمره، فهو بين الضلال والغضب لا أمل له ولا خير فيه”.

“غير المغضوب عليهم ولا الضآلين”… على الإنسان أن يكون صائب الفكر وصادق النظر، فإذا اهتدى إلى الحق فعليه أن يعمل به ويتواضع لربه، ويرفق بعباده.

هذه السورة فرض الله قراءتها فى جميع الصلوات، لتكون مناجاة متجددة مقبولة بين الناس ورب الناس، فهى حقائق علمية، وهى فى الوقت نفسه، ضراعة عبد ينشد رضا مولاه، وقد جاء فى السنة “قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدنى عبدى، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله أثنى على عبدى، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجدنى عبدى، أو فوض إلى عبدى، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذا بينى وبين عبدى، ولعبدى ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين”، قال: هذا لعبدى ولعبدى ما سأل.

ونحن نكرر الدعاء لأنفسنا، كما نكرر غسل أعضائنا لأن أسباب هذا التكرار قائمة، فالجسم الإنسانى لا يكفى فى تطهيره أن يغسل مرة أو مرتين، لابد من تكرار الغسل مدى الحياة، والطبع البشرى لا تصقله دعوة أو دعوتان لابد من تكرار الوقوف بين يدى الله لأن رعونات النفس ووساوس الشيطان لا تنتهى، فلابد من تكرار الدعاء، واستدامة التضرع “إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا”.

وهكذا فى سطور قلائل تم تصوير العلاقة الوحيدة الممكنة بين الناس ورب الناس.

الاعتراف به والثناء عليه والاستعداد للقائه والتعهد بعبوديته ثم الرجاء إليه أن يجعلنا كما يجب”.

****

حرصت على أن أضع النص كاملا أمامكم.

يمكن تسميته كما اختار الغزالى نفسه “صورة شمسية لسورة الفاتحة”… وما فعله بعد ذلك على طول تفسيره لـ 114 سورة، رسم لكل منها سورة قلمية.

لن أفصل لك شيئا مما قاله الشيخ الغزالى فهو واضح من فرط بساطته.

لكن يعترضنى سؤال مهم، وهو: ما الذى أضافه الشيخ بتفسيره الموضوعى هذا إلى علوم القرآن؟

ستقول أن الرجل حاول تقديم المعنى الشامل لكل سورة.

استخلص منها المعانى.

وهو ما فعله تقريبا الدكتور عبد الله شحاته ، فله دراسة هو الآخر عنوانها “أهداف كل سورة ومقاصدها فى القرآن الكريم”، وحاول فيها بمجهود واضح أن يقدم كل سورة من سور القرآن فى صورتها العامة وأفكارها الرئيسية، محاولا أن يكتشف الروح التى تسرى بين آياتها، وتسيطر على مبادئها وتوجيهاتها.

إذا قدر لك وقرأت دراسة الدكتور عبد الله شحاته، ستجد أنها أكثر عمقا مما قدمه الشيخ محمد الغزالى، وهنا مفارقة مهمة لابد أن أثبتها، وهى أن من يتحدثون كثيرا لا يقدمون شيئا ذا بال.

لقد نظر الشيخ الغزالى طويلا فى مساحة تفسير القرآن، وشروط المفسر، لكنه عندما أقدم على التفسير، لم يضف إلى علوم القرآن شيئا، فما بين أيدينا – ويمكن أن تتأكد أنت من ذلك سواء قرأت دراسته أو راجعت مرة أخرى تفسيره لسورة الفاتحة – يشى بدراسة سطحية أرهقت صاحبها دون طائل ولا عائد لا عليها ولا على القرآن ولا على المسلمين.

نرشح لك

محمد الباز يكتب: الشيخ الغزالى… عملية احتكار تفسير القرآن (القرآن في مصر 12)

بالساعة والدقيقة.. مواعيد مسلسلات رمضان 2016

شارك واختر .. ما هو المسلسل الكوميدي الذي تتابعه في رمضان؟ أضغط هنـــا

بنر الابلكيشن