نقلاً عن “البوابة”
كثيرون من الشباب لا يعرفون هذا الرجل، فقد مات منذ اثنين وثلاثين عاما، بالتحديد فى 12 مايو 1984، ترك وراءه أكثر من مئة كتاب، بدأها بـ “الله والعلم” فى العام 1975، وختمها بـ “صدق الله العظيم” الذى انتهى منه قبل شهور من وفاته.
من بين ما يميزه، أن دار أخبار اليوم التى كانت تقريبا تحتكر نشر كتبه، كانت تنشر له كتابا فى مطلع شهر فبراير من كل عام، وهو ما فعلته حتى بعد وفاته، وربما كان هذا الشهر هو المفضل له، لأنه شهد ميلاده يوم 8 منه فى العام 1917.
إنه عبد الرازق نوفل.
صوره المتداولة وهى قليلة جدا بالمناسبة، تشى بأنه موظف حكومى مخلص فى عمله، هو كان كذلك بالفعل، فقد ظل يعمل حتى أصبح وكيلا لوزارة الإقتصاد، وخرج إلى المعاش وهو يشغل هذا المنصب فى العام 1977.
ما الذى يجعلنا نأتى على سيرة الرجل، ونحن نتحدث عن القرآن الكريم فى مصر؟
الحقيقة أن الدكتور عبد الرزاق نوفل خريج كلية الزراعة جامعة القاهرة عمل من أجل القرآن الكريم ربما بأكثر مما عمل شيوخ معممون، تفرغوا للحديث عن جهودهم دون أن يكون لهم إسهام حقيقى أو منجز يمكن أن نقول أنه محترم.
تعرفت على الدكتور نوفل فى سن مبكرة جدا، ربما كان ذلك فى السنة التالية لوفاته، وقتها كنت لا أزال أدرس فى مدرسة الزعاترة الإبتدائية – كان اسمها قد تحول إلى مدرسة الشهيد عمر الشاذلى – ونظمت المدرسة مسابقة دينية أشرف عليها أستاذى المرحوم عوض الشامى الذى أدين له بالكثير.
دارت أسئلة المسابقة كلها حول آيات القرآن الكريم، وغلب عليها الطابع العددى، على سبيل المثال كان من بين الأسئلة: كم عدد آيات القرآن الكريم؟ كم مرة ذكر لفظ الجلالة فى القرآن؟ ما هى السورة التى ورد لفظ الجلالة فى كل آياتها”… وهكذا.
رأيت المدرسين والمدرسات يجتهدون فى حل الأسئلة، قامت إحداهن بعد لفظ الجلالة فى كل الآيات، وبذلت فى ذلك مجهودا جبارا… وبينما آلة العمل البحثى تدور على قدم وساق، وجدت من يقول لو قرأتم كتب الدكتور عبد الرازق نوفل، لوفرتم كل هذا الجهد.
التفت إلى اسمه، لكنى لم أعثر وقتها على كتبه، التى حرصت بعد ذلك على أن تكون عندى قدر الإمكان، وهى كتب لو نظرت فيها ستجدها من السهل الممتنع الممتع فى الوقت نفسه، لقد خط لنفسه خطا منفردا، وهو الربط بين الدين والعلم، دون حذلقة ولا استعلاء، تشعر وأنت تقرأ أن ما يكتبه لوجه الله وحده، فهو يريد أن يضع أيدى المسلمين على أسرار القرآن وعلى عظمة هذا الدين، دون أن يمن على أحد بشيء.
*****
حصل عبد الرازق نوفل على بكالوريس الزراعة فى العام 1938، وفى الكلية حدث ما يمكن اعتباره نقطة تحول فى حياته كلها، حكى هو هذا الموقف، ورواه عنه آخرون، وأعتقد أنه صادق فيه كل الصدق.
فبعد إحدى المحاضرات فى الكلية وقف زميل له فى المدرج وكان ذلك فى العام 1935، وقال إنه يتحدى الله، فإذا كان موجودا كما يقولون فليتقدم لإثبات وجوده بإزهاق روحه حالا والآن دون إبطاء، و إذا لم يمت اليوم أو خلال ثلاثة أيام، فلنبحث جميعا عن معتقد آخر.
كانت الصدمة بلا حدود، لم يتوقع أحد منهم ان ينطق هذا الزميل بما قاله، ورغم معرفة نوفل بأنه لم يكن ملتزما فى سلوكه ولا فى دينه، إلا أن التحدى كان عنيفا.
اعتبر عبد الرازق نوفل أن هذا التحدى له هو شخصيا.
خرج من الكلية هائما على وجهه ليبحث عن أدلة مادية على وجود الله، ليثبت من خلالها لزميله أن الله موجود، لكن حدث ما هو أهم من ذلك كله، ففى اليوم التالى عرف أن زميله مات بالفعل.
ما الذى حدث؟
هل قبل الله التحدى، هل أمات هذا الشاب بطريقة بشعة تصبح مثلا للجميع، فلا يجرؤ أحد على أن يعلن التحدى بهذه الطريقة مرة أخرى؟ هل موته السريع هذا يعبر آية جديدة من الآيات التى تؤكد وجود الله.
لم يحدث شيء من هذا على الإطلاق، مات الشاب لسبب تافه للغاية، كان بطلا من أبطال السباحة فى الكلية، بعد أن خرج من المدرج ذهب إلى حمام السباحة ليمارس رياضته، ولما كان مصابا بجرح فى أذنه، فقد تلوث الجرح، ولم يسعفه الأطباء بعد أن تصاعدت المضاعفات.
فى هذه اللحظة وقرت فى قلب عبد الرازق نوفل فكرة كتابه الأول “الله والعلم”… وهو الكتاب الذى أصدره فى العام 1957، أى أنه ظل يكتب فيه ما يقرب من عشرين عاما، يكتب ويشطب، يزيد ويعيد، ولما ظهر للقراء، كان له أبلغ الأثر.
من بين ما يدل على ذلك، أن هذا الكتاب كان سببا فى هداية أحد الملحدين، أو لنكن أكثر دقة، جعل أحد الملحدين يتراجع عن أفكاره.
فقد تلقى نوفل رسالة من أحد القراء بعد أن قرأ كتابه قال له فيها: لأول مرة فى حياتى لم أبق فريسة الشك، أصبحت أشعر بعد أن أتممت قراءة كتاب “الله والعلم الحديث”، بإيمان قوى يسيطر على لبى، كان موقفى من المسائل الدينية موقفا سلبيا، ولما بلغت الفصل الثانى خاصة الآيات التى يتحدث فيها الله تعالى عن خلق الإنسان من تراب، وكيف أن العلم الحديث قد أثبت أن عناصر الجسم هى للتراب، بهت، ولم أجد منفذا للهروب من الحقيقة التى ظهرت أمام عينى”.
****
لم يترك عبد الرازق نوفل آية كونية أو علمية فى القرآن الكريم إلا وفسرها، وألف فيها كتابا، لكن ربما يكون كتابه “الإعجاز العددى للقرآن الكريم” أهم كتبه، لما فيه من مجهود زائد.
قبل أن ينشره أرسل منه نسخة إلى الرئيس السادات، وكان ذلك فى العام 1977، قرأ السادات الكتاب وأثنى عليه، وأرسل له رسالة جاء فيها: تلقيت بوافر الشكر مؤلفكم الدينى “الإعجاز العددى للقرآن الكريم”، والذى تضمن صورة مشرقة من نماذج الإعجاز الإلهى، تضيء القلوب بنور الأديان، ومع تقديرى لما تبذلونه من جهود فى هذا المضمار الروحى، وأتمنى لكم دوام التوفيق، والتوقيع أنور السادات رئيس جمهورية مصر العربية.
****
قدم نوفل لكتابه بقوله: “وفقنى الله سبحانه وتعالى إلى وجه جديد فى إعجاز القرآن الكريم، ألا وهو الإعجاز العددى الذى يؤكد بالدليل المادى وبالرقم الحسابى أن القرآن الكريم لا يمكن إلا أن يكون وحى الله على خاتم رسله وأنبيائه.
لكن قبل الخوض فيما فعله وهو كثير، من المهم أن أسجل لك رحلة عبد الرازق نوفل الذى لا يكاد يذكره أحد مع القرآن الكريم والإعجاز العلمى فيه.
يقول هو عن ذلك: “كان من توفيق الله سبحانه وتعالى أن جعلنى ممن استمعوا واستجابوا لأمره العظيم بالتدبر فى القرآن الكريم، فزاد إيمانى على ما كان، وتأكدت أن هذه المعجزات لا يمكن أن تكون إطلاقا فى كلام إنسان، إنما هى خاصة وفقط بالقرآن، أليس هو كلام الله الخالد المعجز فى كل زمان؟”.
فى كتابه الأول “الله والعلم” خصص فصلا كاملا للحديث عن الإعجاز العلمى للقرآن الكريم، وكان هذا الفصل تحديدا فاتحة عهد للربط بين القوانين والحقائق العلمية، وبين الآيات الكونية والعلمية فى القرآن، وقد نجح هذا الاتجاه وشاع، وانتشر هذا الرأى وذاع، بما لم يعد فى حاجة إلى إيضاح، أو بيان أو إفصاح.
أثناء دراسته التى أنتجت كتابه الأول التى استمرت لما يقرب من عشرين عاما، كان يعد لكتاب يظهر بعده هو “الإسلام دين ودينا”، عن وسطية الإسلام ودعوته للدنيا والآخرة، فقد وجهه الله سبحانه وتعالى إلى أن يحصى عدد مرات ذكر الدنيا فى القرآن، وعدد مرات ذكر الآخرة، فوجد الدنيا تكررت 115 مرة، قدر ما تكررت الآخرة تماما، رغم اختلاف معظم الآيات التى وردت فيها الأولى عن الثانية، وهو أمر يستوقف النظر، ويثير الفكر ويحتاج إلى التأمل والتدبر، وصدر الكتاب بالفعل عام 1959.
وفى العام 1968 صدرت الطبعة الأولى من كتابه “عالم الجن والملائكة، وجاء فى صفحة 105 منه ما نصه: “إن لفظ الملائكة قد تكرر فى القرآن الكريم 68 مرة، وهو نفس العدد تماما الذى تكرر فيه لفظ الشيطان، وأن عدد ما ورد فى الآيات الشريفة من مختلف صور لفظ الملائكة كملك وملكا وملكين وملائكة هو 88 مرة، وهو نفس العدد تماما أيضا الذى تكرر فيه مختلف صور لفظ الشيطان كشياطين وشيطانا وشياطينهم، فهل هى مصادفة أن يتفق عدد المرات التى ورد فيها ذكر الملائكة فى القرآن الكريم وعدد المرات التى ورد فيها ذكر الشياطين رغم أنهما لم يجتمعا فى آية واحدة”.
لم يكن عبد الرازق نوفل يدرى أن التناسق والإتزان يشمل كل ما جاء فى القرآن الكريم، فكلما بحث فى موضوع وجد عجبا وأى عجب، تماثل عددى، وتكرار رقمى، أو تناسب وتوازن فى كل الموضوعات التى كانت موضع البحث، الموضوعات المتماثلة أو المتشابهة أو المتناقضة أو المترابطة، التى لا يمكن لأى باحث أو دارس أو قارئ أن يستعرضها إلا ويؤمن الإيمان الكامل المطلق بأن هذا القرآن لا يمكن إلا أن يكون وحى الله سبحانه وتعالى لآخر أنبيائه وخاتم رسله، لأنه شيء فوق القدرة، وأعلى من الاستطاعة وأبعد من حدود العقل البشرى.
وصل نوفل إلى قناعة بأن ما هداه الله إليه لابد أن ينشر على الملأ، وأن يذاع على أوسع نطاق، وإلى أبعد حد، ليحمل الوجه الجديد للإعجاز القرآنى، وهو الإعجاز العددى للقرآن الكريم.
****
أعتقد أنكم تريدون مزيدا مما توصل إليه العالم الكبير عبد الرازق نوفل.
لن تستوعب هذه المساحة كل ما توصل إليه ولذلك سأكتفى ببعض النماذج.
****
قد تقول وما هو الإعجاز فى ذلك؟
إن ما قام به عبد الرازق نوفل لم يكن إلا إحصاء عدديا، يمكن أن يقوم به أى طالب فى الإعدادية.
لن أجيبك أنا بالطبع، سأتركه هو يجيب، فلديه ما يقوله.
يقول نوفل: أيمكن أن يقال عن ذلك التساوى كما هاجمه البعض أنه صدفة، وأن قولهم هذا لخطأ جسيم، وقول سقيم، وذنب عظيم، فإن تعريف الصدفة هو أنها أمر تم بلا تدبير، ولا هدف أو قصد، وحاشا أن يقع فى ملك الله سبحانه وتعالى ما هو بلا تدبير ولا عمد وبلا هدف، فكيف بالقول إذا فى كتابه العظيم، فلقد وضعت الصدفة موضع الدراسة العلمية والعملية والمعملية، بعد أن أشاع الماديون والملاحدة أن الخلق قد تم بالصدفة، فبدأ العلماء فى دراسة احتمال الصدفة فى أولى خطوات تكوين الخلية الحية، التى هى أساس الجسد الحى، ألا وهى تكوين البروتين الحى الذى يتكون من خمسة عناصر هى: الكربون والإيدروجين والنيتروجين والأوكسجين والكبريت من بين 92 عنصرا موزعة فى الكون، واحتمال اجتماع هذه الخمسة عناصر تحديدا دون باقى العناصر.
يدلل نوفل على ذلك ما قام به العالم السويسرى “تشارلز يوجين” من حساب هذه الاحتمالات، ليجد أن احتمال قيام هذا الاجتماع بالصدفة هو 1 إلى 10 مضروب فى نفسه 160 مرة أى رقم لا ينطق، ولا يكتب، ولا يمكن التعبير عنه، وأن كمية المادة التى لزمت لحدوث واحد من البروتين بناء على هذا الحساب الدقيق، لا يتسع لها هذا الكون، إذ يجب أن تزيد عليه حجما ووزنا بملايين المرات، ونحتاج إلى عدد سنوات بقدر 10 مضروبة فى نفسها 234 مرة من السنين، كان ذلك فى الوقت الذى كانت العناصر المعروفة هى 92 عنصرا فقط، أما وقد زادت هذه العناصر إلى 102، وهو ما يؤكد استحالة قيام الصدفة فى الخلق علميا وعمليا ومعمليا.
****
يأخذ عبد الرازق نوفل مما توصل إليه دليلا على أن القرآن كلام الله الذى أوحى به إلى النبى محمد، وهو هدف صادق بالنسبة له، قد يكون بالنسبة للمؤمنين بالقرآن إيمانا مطلقا بلا قيمة، فهم لا يحتاجون إلى دليل على أن القرآن هو كلام ربهم، ولذلك كان مهما أن يتوجه الرجل العظيم بدراساته إلى من لا يؤمنون، هؤلاء الذين يتعاملون مع القرآن على أنه مجرد منتج بشرى، أخرجه محمد صلى الله عليه وسلم إلى العالم حتى يكون منهجا يحكم من خلاله، وعندما تحدث أمثال هؤلاء عن العبقرية التى فى القرآن فى مختلف النواحى، لا يقرون إلا بشيء واحد، وهو أن محمد كان عبقريا بما يكفى لينتج هذا القرآن بهذا الشكل.
على أية حال سيظل ما فعله هذا الرجل عملا عظيما، لا يمكن أن ينكره عليه أحد، احتفى به العامة والبسطاء، ولم يأخذ حظه من التكريم بين المعممين والكهنة، هؤلاء الذين يعتبرون أن العمل على القرآن وتفسيره عمل خاص بهم وحدهم، ولذلك لا يأتى ذكره كثيرا، رغم أنه بالفعل قدم خدمة جليلة لكتاب الله، تقاعس عنها كثيرون ممن يتشدقون بالدفاع عنه.
نرشح لك
محمد الباز يكتب: كيف غلب القرآن زغلول النجار؟ (القرآن في مصر 14)
بالساعة والدقيقة.. مواعيد مسلسلات رمضان 2016
شارك واختر.. ما هو المسلسل الكوميدي الذي تتابعه في رمضان؟ أضغط هنـــا