نقلاً عن “البوابة”
من الظلم البين للشيخ الشعراوى أن نصفه بأنه مفسر لغوى للقرآن الكريم فقط، رغم أن براعته اللغوية كانت طاغية على كل جوانب تفاعله مع كتاب الله العظيم، فقد اختلط لديه الدين بالسياسة، ليس لأنه كان وزيرا بالفعل فى عهد الرئيس السادات ( تولى وزارة الأوقاف من نوفمبر 1976 حتى أكتوبر 1978)، ولكن لأن فلسفته فى التفسير جعلت القرآن كتابا يشتبك مع كل جوانب الحياة، ثم وهذا هو الأهم، لأن القرآن فى جانب من تجلياته يمكن التعامل معه على أنه كتاب سياسة، كثير مما ورد فيه يمكن أن يكون مزعجا وبشكل كبير لمن يحكمون.
على يد الشيخ الشعراوى يمكن أن نتعرف على بعض جوانب القرآن السياسى، لن نسعى إلى تأويل ما قاله، بل سنعتمد بشكل كبير على نص ما قاله هو.
كان من الطبيعى أن تزل قدم الشيخ الشعراوى بالطبع، فالسياسة لا ترحم كل من يقترب منها، حتى لو فعل ذلك بحسن نية.
وهنا سأتوقف عند ثلاث محطات، جمع القرآن فيها بين الشيخ الشعراوى والرئيس السادات.
****
المحطة الأولى كانت فى مجلس الشعب.
كان ذلك فى 20 مارس 1978، الشيخ الشعراوى يتحدث فى المجلس عن الرئيس السادات، قال نصا: “والذى نفسى بيدى لو كان لى من الأمر شئ لحكمت لهذا الرجل الذى رفعنا تلك الرفعة، وانتشلنا مما كنا فيه إلى قمة ألا يسأل عما يفعل”.
تعالى التصفيق فى المجلس، سيطرت بلاغة الشيخ على آذان الجميع، إلا أن واحدا من أعضاء المجلس انتبه إلى خطورة ما قاله الشيخ.
وقف الشيخ عاشور محمد نصر الذى كان معروفا بجرأته الشديدة، وعنفه فى التعبير عن رأيه، صرخ فى وسط القاعة قائلا: ” مفيش حد فوق المساءلة إلا الله”.
اعتبر السادات ما فعله الشيخ عاشور إساءة شخصية له، فتحرك رجاله، وبعد أسبوع واحد عقدت جلسة لرفع الحصانة عن الرجل الذى تجرأ ورفض مجاملة الشعراوى للسادات، لأنه اعتبر أن هذه المجاملة تأتى على حساب الله.
فى الجلسة لم يصمت الشيخ عاشور، قال: “لم أنم ليلتها، ومن الجائز أن أكون رجلا جاهلا لم يتيسر لى فهم كلام الشيخ الشعراوى، واليوم أستغفر الله، لأننى لن أسمح لنفسى أن أسمع أن السادات لا يسأل عما يفعل، لأن السادات من الناس، وسيد الناس يسأل عما يفعل… إن الله هو الذى لا يسأل عما يفعل وهذه صفة من صفاته ولا أحد يشاركه فيها”.
انتهت الجلسة برفع الحصانة عن الشيخ عاشور، لكن هل كان للشيخ الشعراوى كلمة فى هذا الموقف، لقد خرج منه خاسرا تماما، لم يطارده خصومه بأنه ينافق الحاكم فقط، ولكن بأنه يتجاوز فى حق الله من أجل إرضاء الحاكم.
أفسح الشعراوى المجال لقدراته اللغوية حتى يتخلص من ورطته.
اتهم كل من عارضوه وتهجموا عليه بالجهل الشديد.
استحضر الشيخ الآية الكريمة التى احتج بها عليه خصومه، وهى الآية 23 من سورة الأنبياء ” لا يسأل عما يفعل وهم يسألون”… وبدأ يستعرض عضلاته اللغوية.
قال: إذا دخلت ” لو” على اسم فإنها تعنى الإمتناع عن وجود، مثل أن نقول: لولا على لحضر عمر، والمعنى أن عمر لم يحضر لأن على موجود، أما لو دخلت “لو” على فعل، فإنها تعنى الإمتناع عن الإمتناع، وقد قلت: ” لو كان الأمر بيدى”… فأنا أمتنع عن رفع السادات إلى درجة ألا يسأل عما يفعل، لإمتناع أن يصل أحد إلى هذه الدرجة إلا الله سبحانه وتعالى.
هذا هو التفسير اللغوى لما جرى، لكن هل كان هذا ما يدور فى خاطر الشيخ الشعراوى، وهو يمدح السادات فى مجلس الشعب، لن أجزم بشئ، فالأمر كله يعلمه الله وحده.
****
المحطة الثانية كانت على هامش خواطر الشيخ الشعراوى، التى لم يعترض طريقه فيها أحدا منذ أن بدأها.
فى الوقت الذى دخل الرئيس السادات الكنيست الإسرائيلى، كان الشيخ الشعراوى على جبل عرفات، يقولون أنه عندما سمع بمبادرة السلام التى أعلنها السادات، ومد يده من خلالها إلى إسرائيل، قال ” من يصنع مبادرة مع اليهود فليصنع مبادرة مع الله”.
بدأ الشيخ فى خواطره المذاعة يتحدث عن بنى إسرائيل واليهود، وكثيرا ما عرض بهم، عبر روايات كثيرة كان الشيخ الشعراوى مصدرها الأول، تردد أن أنيس منصور أبلغ الرئيس السادات بشكوى مناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل وقتها من الشيخ الشعراوى،
قال أنيس للسادات: مناحم بيجين غاضب من الشيخ الشعراوى جدا لأنه يهاجم اليهود كيهود، وهو ما يمكن أن يهدد عملية السلام بين مصر وإسرائيل.
كان رد الشعراوى واضحا، قاله بعد ذلك بنفسه، لا تلتفت إلى الحماسة الهائلة التى تغطى على الكلام، ولا تهتم بلماذا لم يعلن الشيخ رأيه وقتها، وقاله متأخرا بعض الشئ، فالمهم أنه تحدث.
يقول الشيخ الشعراوى تعليقا على رغبة اليهود فى إيقافه، ومنعه من الحدبث عن اليهود فى تفسيره للقرآن: جرايد أمريكا كتبت: اسكتوا هذا الرجل، وإسرائيل هى الأخرى وقفت وقالت: مفيش تطبيع معاكم إلا لما تسكتوا الشيخ الشعراوى، همه عايزنى أسكت، والله مانى ساكت لا لما يسكتونى… أنا مقدرش أجامل إسرائيل على حساب الله تعالى، كل التاريخ يمكن أن يزور أو يزيف، إلا كلام الله، وكل جرائم اليهود القرآن وثقها، فلا أحد يستطيع أن يغيره أو يحرفه.
لقد اعتمدت هنا على رواية الشيخ الشعراوى، وهى رواية تفتقد التفاصيل الدقيقة، رحمه الله كان رجلا شفويا، يتحدث، ويترك الآخرين ليسجلوا ما قاله، فعل هذا فى تفسيره للقرآن، ولسرده لسيرة حياته أيضا.
ما رأيكم أن نستمع إلى رواية أنيس منصور عما جرى.
فى 15 إبريل 2008 كتب أنيس مقالا عنوانه ” الشعراوى يهاجم اليهود”
قال أنيس: دفع الرئيس السادات بخطاب ضاق به، وظل يدفعه حتى سقط على ساقى، وقال: اقرأه وقل لى أعمل ايه فى ابن الايه ده.
أما الخطاب فهو من رئيس وزراء إسرائيل مناحم بيجين يشكو من أن الشيخ متولى الشعراوى يهاجم اليهود ليلا ونهارا ومن غير مناسبة، وخاصة فى الحلقتين الأخيرتين.
ذهب أنيس منصور إلى التليفزيون، وطلب مشاهد الحلقتين الأخيرتين للشيخ الشعراوى، وبعد أن استمع إليهما لم يجد فيهما شيئا مما نقلوه إلى بيجين، فأغضبه.
يقول أنيس: شاهدت حلقات أخرى للشيخ الشعراوى، فالرجل لا يهاجم اليهودية ولا المسيحية، فهو فقيه مسلم يفتش فى كنوز المعانى البديعة.
عاد أنيس إلى السادات، ونقل إليه ما سمعه، لكن السادات كان فى قمة غضبه، وكان مهتما جدا بالخطاب الذى أرسله بيجين، ومن بين ما قاله السادات أن بيجين زودها وحشر أنفه فيما لا شأن له به، وعاب السادات على من ترجموا حلقات الشيخ وأرسلوا بها إلى بيجين، بل وطالب بإطلاق الرصاص عليهم، لأنهم ليسوا إلا جهلاء.
لم تتوقف حلقات الشيخ الشعراوى، ولم يتم حذف أيا مما قاله، كل ما جرى أن حلقة واحدة من البرنامج توقفت إذاعتها، ولما علم السادات بذلك غضب جدا، فأذيعت مرة أخرى.
يكمل أنيس منصور ما جرى، يقول: وفجأة تلقيت خطابا من الدكتور بطرس غالى، وفى الخطاب نص خطبة وزير التعليم الإسرائيلى التى يطالب فيها بحذف آيات من القرآن الكريم، لأنها تحض على كراهية اليهود، وانه لا سلام بين مصر وإسرائيل ما دامت هذه الآيات موجودة.
عرف السادات بأمر خطبة وزير التعليم الإسرائيلى، طلب من أنيس منصور أن يذهب إلى إسرائيل لمقابلة بيحين، وينقل له على لسانه أنه إذا لم يكف عن الإدعاء بأن الشعراوى يهاجم اليهود وليس الصهاينة ، فإنه سوف ينشر خطبة وزير التعليم الإسرائيلى على جميع القنوات فى مصر والعالم العربى، ولما سمع بيجين ما قاله السادات، رفع يديه بما معناه أنه لن يفعل وإن هذا يكفى جدا.
لقد كانت هناك محاولة لتطويع القرآن سياسيا، لكن الرئيس السادات قطع الطريق على بيجين، وحمى الشعراوى، الذى بعد أن مضت السنوات عليه، إذا به يحول الأمر إلى بطولة، وأنه لم يخضع، ولم يقبل أن يتدخل أحد فى تفسيره، رغم أن المعركة كانت سياسية على أعلى مستوى رسمى بين البلدين، استفاد منه الشعراوى فى النهاية، لكنه كان يريد أن يستفيد منها إلى الأبد، فظلت القصة التى رواها يحيكها مريدوه من بعده، دون أن يحاول أحد أن يبحث عن مصدر ثان لها.
****
المحطة الثالثة كانت على هامش إغتيال الرئيس السادات… الوقائع جرت قبل مقتله في أكتوبر من العام 1981 بالطبع.
كان للشيخ الشعراوى رأى واضح ومحدد فى مقتل الرئيس السادات ورد الفعل على ذلك.
كان يقول أن السادات مات شهيدا والذين فرحوا فى قتله أغبياء.
يشرح الشيخ وجهة نظره هذه بقوله: لأن السادات بإقراره كانت له أحداث قبل الثورة دخل فيها فى شئ نسميه – جرائم سياسية – فما الذى يمنع أن يكون الله قد قدر فى حسناته، وأراد أن يذهب بها سئياته، فقتل ليأخذ أصل الشهادة فتمحو سيئات ما تقدم، فالسادات مات على غير فراشه، مات بإطلاق الرصاص عليه وكان للحادث ردود فعل واسعة، فالذين أحبوه قالوا عنه الكثير والذين لم يحبوه قالوا عنه الكثير أيضا، لكن الشماتة فى الموت بهذه الطريقة التى سمعنا عنها من بعض البلاد العربية لا يمكن أن تكون من أخلاق المسلمين.
لكن ورغم هذا الرأى الراقى والواضح، إلا أن فى أرشيف الشيخ الشعراوى ما يشير إلى أن هناك فتوى أطلقها ورأى الرئيس السادات نفسه أنها يمكن أن تكون سببا فى قتله، أو أنها على الأقل تعلم الناس كيف يمكن أن يتخلصوا ممن يحكمونهم.
أمر الفتوى بتفاصيلها وما جرى بعد ذلك يحكيه الشيخ الشعراوى بنفسه، يقول: قبل حادث إغتيال الرئيس السادات بأسبوع كنت أقدم حديثا تليفزيونيا أشرح فيه الآية التى تقول” تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير”، وأذكر أننى قلت يومها أنه لا أحد يملك أن يحكم من وراء ربنا دون إرادة منه، إن كان عادلا وخيرا فهو جزاء على طاعة عباده، وإن كان مستبدا وغير عادل فهو تأديب لعباده، وقلت إن إتيان الملك خير ونزع الملك خير، فالله ذيل الكلام بقوله بيدك الخير، ومعنى أن إتيان الحكم خير للحاكم أى مكنه من عمل شئ خير للناس، لأنه جعل الرئاسة والحكم لصالح الأمة، ونزع الحكم خير أيضا، خير للحاكم لأنه أوقع سيف البغى من يده كحاكم، وخير للناس لأنه تخفيف عن الناس من المتاعب والشر الذى يلقونه على يد هذا الحاكم.
ويضيف الشيخ الشعراوى إلى تفسيره للآية الكريمة: وقلت أيضا أن الحكم يبقى بالهيبة من الحاكم هيبة حراسه منه، فإذا أراد الله أن ينزع الحكم من حاكم فإنه ينزع المهابة من قلب حراسه فيوجهون له الرصاص بدلا من أن يوجهوه إلى عدوه.
بعد إذاعة هذه الحلقة من البرنامج اتصل المهندس عثمان أحمد عثمان وكان صديقا للرجلين (الرئيس والشيخ) وقال له: يا مولانا الرئيس شاف الحلقة وتابع ما قلته فى تفسير الآية وضحك كثيرا وقال أن الشيخ الشعراوى بيعلم الناس إزاى يقتلوا رؤساءهم، فرد الشيخ الشعراوى على عثمان بقوله: أنا باشرح الآية الكريمة فقط، وليس لى علاقة بما فهمه الرئيس منها، وبعد أسبوع واحد وقع حادث إغتيال الرئيس السادات فى أرض العرض العسكرى أثناء إحتفاله بإنتصار أكتوبر فى العام 1981.
لم يكن الشيخ الشعراوى يعلم الناس كيف يقتلون الرئيس بالطبع، فلم يخرج هو نفسه عن أى رئيس، بل بادر إلى تقديم إعتذار عن سوء فهم جمعه وضباط يوليو في بدايات ثورة 52.
كان الشيخ الشعراوى موفدا في المملكة العربية السعودية، وفى أول إجازة له بعد الثورة، حققوا معه هو ومجموعة المشايخ الذين كانوا يعملون هناك، وكانت التهمة أنهم قرأوا الفاتحة ضد الثورة، وطلبوا من الله أمام الكعبة أن ينصر الله الملك، ولم يكن شيئا من هذا صحيحا على الإطلاق، ورغم ذلك فإن الشيخ الشعراوى بادر إلى توضيح موقفه، واعتذر عما يمكن أن يكون وقع من سوء فهم، لأن المشايخ لم يجتمعوا أمام الكعبة من الأساس إلا ليدعوا للثورة ولنصرة مصر.
****
لم يكن الشيخ الشعراوى أبدا من شيوخ السلطان، ولم يضع تفسيره بشكل مباشر في خدمة الناس، لكنه لم يستطع أن يقدم خطاب الإسلام الثورى أبدا في أى وقت من الأوقات، بل طوعه من أجل استقرار الحكم.
كان الشيخ يعلى من شأن الآيات التى تتحدث عن الصبر، وتمتدح الفقر والفقراء، هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب، إذ ما الذى يمكن أن يعطلهم عن الجنة، على عكس الأغنياء الذين سيدخلون الجنة حبوا، لأن الله سيحاسبهم على كل مليم من أين حصلوا عليه، وفيما أنفقوه.
هل كان الشعراوى يفعل ذلك من أجل توطيد أركان حكم مبارك، وإحباط أى ثورة عليه من هؤلاء الذين لا يجدون قوت يومهم، أغلب الظن أنه لم يفعل ذلك عن قصد، بل حدث رغما عنه، فقد كان هذا خطابه الذى لم يتخل عنه، والذى كان مختلفا تماما عن خطاب دعاة جاءوا من بعده، كانوا يمتدحون الأغنياء، ولا يقتربون من الصبر على الفقر، وذلك لأن الأحوال تغيرت، ومن يملكون الثروة تصدروا المشهد، وكان لابد من خطاب مناسب لهم.
يحتكم كثيرون إلى موقف الشيخ الشعراوى مع الرئيس مبارك، فقد وقف إلى جواره بعد نجاته من محاولة الإغتيال في أديس أبابا، وضع يده على كتفه، وقال له: إذا كنا قدرك فليعنك الله علينا، وإذا كنت قدرنا فليعنا الله عليك… اعتبروا هذه جرأة في وجه الحاكم، دون أن يدركوا أن الرجل كان يقف على عتبة الموت، ولم يكن له أن يقول غير ذلك.
لم يسأل هؤلاء عن السنوات الطويلة التى قضاها الشيخ الشعراوى في كنف مبارك، ولا أريد أن أبالغ وأقول أنه كان من بين أدوات حكم الرئيس السابق، لأنه بالفعل كان كذلك.
أما كيف حدث هذا؟
فهذه قصة طويلة، أعتقد أن حديثا مطولا عن القرآن وماذا فعل به المصريون لا يتحملها.
نرشح لك
محمد الباز يكتب: هل فسر الشيخ الشعراوى القرآن فعلا؟ (القرآن في مصر 16)
شارك واختار .. ما هو المسلسل الكوميدي الذي تتابعه في رمضان؟ أضغط هنـــا