كنت قد قررت سابقاً أن أؤجل الكتابة عن الجزء السادس من “ليالي الحلمية” حتى لا أركب موجة النقد والهجوم على المسلسل قبل اكتمال عناصره، وحتى تتبين الصورة الكاملة لمستوى المسلسل لكي لا أظلم صناعه، احتراماً مني لمجهودهم الذي بذلوه في محاولة إعادة صياغة صورة مقبولة لمسلسل انتهى آخر أجزائه منذ أكثر من 20 عاماً بل وتوفي أغلب صانعوه؛ المؤلف والمخرج ومعظم النجوم الأساسيين، حتى النجوم الأحياء لا يمكن الاعتماد عليهم في المسلسل لأنهم زمنياً ومنطقياً لا يمكن أن تستمر شخصياتهم في المسلسل، وكنت قد قررت أن أكتب بعد نهاية المسلسل مقالا نقديا شاملا يوضح كل الإيجابيات والسلبيات احتراماً لأهمية المسلسل عند الشعب المصري وأهميته الخاصة عندي.
ولذلك تغاضيت عن كثير من المغالطات الزمنية ولم أتوقف عندها كغيري من النقاد، باعتبار أنه كان لابد من استمرار بعض الشخصيات الرئيسية من الأجزاء السابقة ليكونوا بمثابة العمود الفقري الذي يمكن بناء أحداث المسلسل عليه، حتى لو كان استمرارهم ضد قواعد السن الأساسية بل إن بعضهم لو افترضنا استمرار حياته فإن عمره يقترب من التسعين في عام 2005 (وهو عام بداية الجزء السادس) مثل “أنيسة بدوي”، ” نازك السلحدار”، “وصيفة المرزوقي”، “طلعت الشماشرجي”، “بسة”، “الخمس”، وتغاضيت كذلك عن بعض المعالجات والأحداث غير المنطقية من أجل الرغبة في الوصول بصيغة مقبولة لمسلسل نتمنى استمراره كدفتر أحوال للمجتمع المصري رغم بعض التجاوزات الزمنية والمنطقية.
لكن أن تحدث سقطة من النوعية التي تدل على الاستسهال وعدم الدقة فلا يمكن أن أتغاضى عنها، ففي الحلقة 17 من الجزء السادس تم الدفع بشخصية جديدة بشكل مفاجئ لكي تتولى قيادة قهوة الحلمية، بديلة عن “زينهم زكريا” الذي يقوم بدوره “محمد عبد الحافظ” نجل المخرج الراحل “إسماعيل عبد الحافظ ” والذي يدير القهوة بأسلوب البلطجية بما يتنافى مع الصورة الذهنية للقهوة في عقول مشاهدي “الحلمية”، الشخصية الجديدة أداها الممثل “محمود البزاوي” وقدم نفسه على أنه “منصور” ابن المعلم “علام السماحي” الذي أشيع أنه مات في العراق بعد الغزو العراقي للكويت وأكد بطريقة مسرحية “استنى.. بوليس ليه؟! عيلة السماحي لسه رجليها بتدب في أرض الحلمية!!”.
والمشكلة ليست هنا ولكن السقطة أن “علام السماحي” الذى قام بدوره المبدع “صلاح قابيل” ذكر أسماء أولاده في أحد مشاهد الجزء الرابع وهم على الترتيب “ياسر”، “خالد”، “نور”، وكان المفترض وفقاً لنص “أسامة أنور عكاشة” أن “ياسر” الابن الأكبر في العراق والابن الأصغر “خالد” في الكويت، وقام بدوره “أحمد سلامة” وتزوج ضمن أحداث الجزء الرابع من “قمر السماحي” وتقوم بدورها “حنان شوقي”، ولم يظهر أي مشهد للابن الأكبر “ياسر” سوى ورود اسمه على لسان أبوه او أخوه.
ومعنى ذلك أننا أمام احتمالين الأول: أن مؤلفي المسلسل لم يشاهدوا الأجزاء الأربعة الأولى بدقة وبنوا أحداثهم على الجزء الخامس فقط، والذي لم يذكر فيه أصلاً اسم “ياسر” ولكن ذكر على لسان “فاروق” صبي القهوة أن المعلم “علام” وصله خبر وفاة ابنه الأكبر في العراق مما صدمه وعجل بوفاته.
الاحتمال الثاني: أنهم يعرفون الاسم وأرادوا تغييره لكي يصنعوا اسماً درامياً وهو “منصور السماحي” لأنه لا يمكن أن يكون المعلم صاحب القهوة اسمه “ياسر السماحي”!!!! وهو احتمال ساذج وتزوير بدون مبرر واستخفاف بعقول المشاهدين، لأنك عندما تخاطب مشاهدي “الحلمية” فإنك تخاطب جمهور تربى وشكل شخصيته من خلال أجزاء المسلسل ويحفظ الشخصيات كما يحفظ أقاربه.
ولكن ما يؤكد الاحتمال الأول أنهم قدموا “منصور” خلال المشهد التعريفي به على أنه شاب اتمرمط في العراق وعمل في أي مهن حتى يجمع المال، وهو ما يتناقض تماماً مع الصورة التي رسمها “عكاشة” لأبناء المعلم “علام” الذين كان يفترض أنهم متعلمون جيداً في كليات قمة، ولم تكن ظروفهم المالية أصلاً سيئة حتى تدفع أحدهم للعمل في مهن بسيطة في العراق لان والدهم كان صاحب قهوة وورشة حدادة.
والاسوأ حينما تعقد مقارنة بين الطريقة المبتورة التي قدم به صناع الجزء السادس هذا المدعو “منصور السماحي” لكي يحلوا به مشكلة عدم وجود معلم جدع لقهوة “السماحي” وبين طريقة “عكاشة” نفسه في حل ذات المشكلة التي واجهته مرتين، الاولى بعد ان مات “زينهم السماحي” ضمن احداث الجزء الثالث بعد سماعه خبر انتصار اكتوبر، مما اضطر “عكاشة” في الجزء الرابع لاختراع شخصية “علام السماحي” ليحافظ على احد الافكار الاساسية في الملحمة وهي شخصية معلم القهوة الشهم ابن البلد، ثم بعد الوفاة المفاجئة للنجم “صلاح قابيل” (والذي كان دوره أحد الأسباب الأساسية لنجاح الجزء الرابع) اضطر “عكاشة” مرة أخرى لابتكار شخصية المعلم “سيد أبو ليلة” خال أولاد “علام السماحي” الذي قام بدوره القدير “يوسف شعبان” لكي يعيد أمجاد شخصية معلم القهوة الجدع بـ “ستايل” مختلف يتناسب مع تغير الزمن.
لكني أتوقف طويلاً عند الطريقة التي قدم بها “عكاشة” شخصية “علام السماحي” (وهي بالمناسبة طريقة يمكن أن تدرس في علوم الدراما حول كيفية دمج عنصر جديد في ملحمة درامية) فقد دفع به في مشهد وحيد في نهاية الحلقة التاسعة من الجزء الرابع لخلق عنصر التشويق واستثارة فضول المشاهد، وهو المشهد الذي كان يتم فيه تغيير اسم شارع الشهيد “طه السماحي” لشارع السلام عندما صاح مؤكداً لابنه “ناجي” (موقتاً بس يا سماحي.. موقتاً بس.. لكن وشرفك اليافطة القديمة حتتعلق تاني) ثم اختفى كبطل أسطوري، وكان المشهد الأهم في الحلقة الثالثة عشر والذي قدم فيه نفسه إلى “ناجي السماحي” في منزله وأوضح له أنه ابن عم والده، الذي هرب من جده وعاش في دمياط وتزوج من فتاة دمياطية وفتح قهوة هناك، أي أن “عكاشة” صنع له ما يشبه التاريخ والبناء الدرامي الذي يستطيع أن يبني عليه بعد ذلك ثم تحول إلى شخصية محورية في الأحداث.
ورغم كل تلك الدقة أعاد “عكاشة” مراجعة نفسه في الحلقة الأخيرة من الجزء الخامس (والتي يبدو أنه كان يراجع فيها كل ما كتبه في الأجزاء السابقة) حيث ذكرت “سماسم العادلي” والدة “قمر السماحي” وأرملة “زينهم السماحي” لابنة “علام” الشابة “نور” أنها لم تتقبل فكرة سماحية دمياط، وقالت “سماسم” بالنص “أنا لما قالولي إن إنتي والمرحوم أبوكي سماحية من بتوع دمياط.. لعبت في دماغي.. بس عايزة أقولك إن السماحية الحقيقية هما اللي اتربوا هنا.. في الحلمية.. واتعجنوا بترابها”، أي أنه كان مؤمناً بتأثير المكان على الأشخاص وهي أحد القواعد الأساسية التي تشكل شخصيات “عكاشة” الدرامية.
ولو أرهق صناع المسلسل أنفسهم وشاهدوا الحلقة الأخيرة من الجزء الرابع كانوا سيعرفون جيداً اسم ابن المعلم “علام” الذي اختفى في العراق، حيث ورد اسمه صريحاً وبوضوح على لسان “خالد السماحي” في المشهد الذي جمعه مع المعلم “علام” حيث سأل والده عن شقيقه “ياسر” (ياسر مش منصور!!!!) وأضاف “خالد” أنه لم يره في رحلة عودته من الكويت عبر العراق والأردن أثناء الغزو العراقي للكويت، ورغم أنني لا أحب أن أنقص من مجهود كتاب المسلسل وأعترف أنهم بذلوا مجهوداً كبيراً وكنا جميعاً نرجو لهم النجاح، ولكني كنت أتمنى مزيداً من التركيز والاهتمام لأن “ليالي الحلمية” ملحمة كبيرة مكونة من خمسة أجزاء ونحو 160 حلقة ولا يمكن اختزالها في 40 حلقة هم قوام الجزء الخامس فقط!!!!!!
نرشح لك
وليد رشاد يكتب: ولا عمرك هتنسى الدوندو!!
دعاء فاروق تكتب: الكماشة رقم (١) في مصر.. قناة الحياة سابقًا
شارك واختر.. ما هو المسلسل الكوميدي الذي تتابعه في رمضان؟ اضغط هنـــا