في البداية، أود أن أوضح أنني لست بصدد الحديث عن إنفلونزا الطيور أو الخناير أو حتى فيروس إيبولا الوبائي المنتشر في غرب إفريقيا، حيث أن هذه العدوى مختلفة تمامًا وأكثر فتكا بشعوب بأكملها لأنها تنتشر كالنار في الهشيم وتنتقل من دولة إلى أخرى ومن قارة إلى أخرى بسرعة هائلة.
إنها عدوى “مكافحة الإرهاب” التي بدأت رحلتها من مصر بعد التفويض والأمر الذي طلبه الرئيس السيسي وقت أن كان الطريق يمهد أمامه إلى قصر الرئاسة، وهو التفويض الذي استخدم فيما بعد كمؤشر على شعبيته وتناولته وسائل الإعلام الموالية للسلطة الحاكمة آنذاك والتي لا تختلف عن السلطة الحالية في شيء؛ فالأساس الذي تنطلقان منه هو المؤسسة العسكرية.
انتقلت تلك العدوى، التي يمكننا أن نسميها عدوى “مكافحة الإرهاب” التي هي مهمة الدولة وواجبها أو عدوى “التفويض”، إلى تونس، إذا خرج الرئيس التونسي السبسي يطالب الشعب التونسي بـ “تفويض” لـ “مكافحة الإرهاب.
والجديد أن تنتقل العدوى إلى فرنسا، ثاني أكبر دولة في أوروبا وعضو حلف شمال الأطلسي، فبعد تعرض صحيفة فرنسية، شارلي إبدو، لهجوم مسلح أسفر عن مقتل عدد من الصحافيين ورجل شرطة، ثبت فيما بعد أنه مسلم، وأثناء استمرار حالة الاستنفار الأمني في جميع أنحاء البلاد والمداهمات المستمرة في إطار مسلسل لا يعلم إلا الله متى ينتهي، خرج الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند على الشعب الفرنسي بدعوة إلى وقفة سلمية لدعم ضحايا الحادث وحرية الصحافة والتعبير عن الرأي.
ولنا هنا أن نتخيل الرئيس أولاند وهو يقول أثناء تلك الوقفة، التي ذكرت سي إن إن على موقعها الإليكتروني أنها ستكون يوم الأحد المقبل، “أطلب منكم تفويض وأمر لمكافحة الإرهاب.”
المشكلة الحقيقية في انتقال العدوى لا تكمن في إطلاق الدعوى، بل في التغطية الإعلامية للحادث وموقف السلطات الفرنسية منها ومواقف عديدة أخرى عبر عنها أصحابها من بينهم المعنيين بالفعل بالأمر وآخرون اقتحموا المجال دون أن يكون لهم في الأمر ناقة ولا جمل.
فالإعلام المصري الموالي للسلطة، الذي يمثل أغلبية الفضائيات والمواقع الإليكترونية والصحف المطبوعة، يغطي الحادث من اللحظة الأولى، وهو الشيء الإيجابي الوحيد فيما يحدث الآن. أما عن السلبيات، فحدث ولا حرج ومن يأتي الحرج عندما نتعامل مع من كشفوا وجوههم القبيحة وموالاتهم للسلطة على طول الخط.
أما عن أبرز السلبيات التي أظهرها الإعلام المصري، فهي إقحام مصر في الأمر عنوة دون مبرر مقنع لذلك في هذا الأمر. فقد أُقحمت مصر في الأمر عندما نشرت وسائل الإعلام بيانات عن الرئاسة تؤكد دعم مصر لفرنسا في مكافحة الإرهاب.
وهنا نتسائل، أنى لمصر أن تدعم مكافحة الإرهاب خارج البلاد بينما هي الإرهاب يقض المضاجع في الداخل المصري ويصل إلى حيث يشاء من الحدود الشرقية إلى العاصمة، القاهرة، إلى الحدود الغربية.
أما الأمر الثاني، فهو خبر نشر على أشرطة الأنباء في جميع الفضائيات المصرية مفاده أن “الرئيس السيسي حذر منذ العالم أجمع أثناء كلمته أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة من خطر الإرهاب وأنه لن يستثني أحدا وسيعصف بكل الدول ما لم تواجهه.”
وأعتقد أن الأمر واضح دون إشارات ضمنية، إذ يدعم الخبر نظرية الزعيم الخارق بعيد النظر الذي يرى الحادث قبل وقوعه.
وبينما يندد الجميع في مصر ويحللون ويطلقون التحذيرات والبيانات ورسائل الدعم، ترد عليهم وسائل الإعلام العالمية بأذرعها الناطقة بالعربية بتغطية مكثفة ومستمرة للحادث الإرهابي وتداعياته وتحليلاته وتطورات الأحداث والتحقيقات وما إلى ذلك من أمور تزيد حجم الحدث وتضخمه وتحمله ما لا يحتمل.
هل فكرت عزيزي الإعلامي المصري قبل أن تحاول تضخيم صورة رئيس الدولة وإظهاره في صورة الزعيم الخارق وتستغل الحادث الإرهابي الذي وقع على أراضي فرنسية في حرب الرئيس مع الإخوان الذين يمثلون الجناح المعارض للسيسي الذي انتزع منهم الحكم؟
أنا لا أدعوك إلى التفكير الآن، لأن ما كان قد كان، بل أذكرك بأنك أثناء السعي لتحقيق مكسب سياسي لرئيس دولتك في حربه مع الإخوان، دعمت قضية أكبر تسعى قوى الغرب بكل أسلحتها وأدواتها لكسبها، وهي استعادة نفوذها في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط وإيجاد موطأ قدم لقواتها العسكرية للعودة إلى المنطقة بأراضيها ومياهها.
أتفهم أن يدعم إعلاميون حرية الصحافة وأن ينددوا بمقتل الصحافيين الفرنسيين، ولكني لا أتصور غرق الإعلام في مستنقع السياسة حتى الرقاب. ولا أتصور كيف يخضع الإعلام لرقابة النظام من خلال أيد ظاهرة أو خفية تتحكم في وسائله وتحوله إلى مجرد ساعي بريد يوصل رسائل السلطة إلى المحكومين.