نقلًا عن “اليوم الجديد”
كنت قد تحدثت في مقال سابق عن حاجتنا وحاجة الدراما المصرية إلى التخلص من موجة سخيفة قبيحة سادت مسلسلاتنا في السنوات الأخيرة، هي مسلسلات “الأكشن” و”البلطجة” التي لا نراها معبّرة عنّا، وكم أننا بحاجة ماسّة إلى ذلك النوع من المسلسلات الذي يعيد للمشاهد استمتاعه بالدراما الإنسانية الراقية، ويقربه من مشكلاتنا ويحدثه بلساننا دون أن يؤذيه أو يضايقه، بل تحرك مشاعره وتمتع حواسه بما تضيف من تفاصيل ثرية ..
ويبدو أننا سنظل ممتنين للثنائي الكاتب “تامر حبيب” والمخرج “محمد شاكر خضير” على صنيعهما للعام الثاني على التوالي، بعد أن قدما في رمضان الماضي مسلسلاً متميزًا هو “طريقي” استعدنا فيه اكتشاف “شيرين عبد الوهاب” وضحك الناس معها وبكوا وجميع طاقم التمثيل بمن فيهم “محمد ممدوح” ودوره الشرير المتميز، والفتاة الرقيقة المغلوبة على أمرها “ندا موسى” اللذان انتقلا معهم هذا العام إلى المسلسل المتميز “جراند أوتيل”.
وللمرة الثانية على التوالي ينجح “تامر حبيب” في اقتباس فكرة مسلسل أجنبي وتحويله أو لنقل “تمصيره” وبث روح جديدة فيه وتفاصيل خاصة بنا جدًا، ليخرج لنا بهذا العمل مع طاقم متميز بدءًا من مصممي الديكور والمخرجين والموسيقى التصويرية الرائعة “لأمين بوحافة” الذي حمل الأجواء الرومانسية واستطاع تحميلها بمشاعر الأبطال في لقطات كثيرة بحيث جاءت مناسبة تمامًا لأجواء العمل.
ولقطات التصوير المتقنة لتيمور تيمور، وكذلك ديكور المكان وتفاصيله المختلفة التي قدمها “أحمد شاكر خضير” باحتراف، كما أضاف اختيار “الملابس” الذي قدمته “ياسمين القاضي” بعدًا إضافيًا مميزًا للصورة عكس لنا أزياء تلك الفترة سواء بين الهوانم والباشوات أو بين العاملين والخدم وكيف عبّرت الملابس ليس فقط عن طبقات الأشخاص بل عكست في أحيانٍ كثيرة جزءًا من شخصياتهم، كل هؤلاء يقودهم جميعًا المخرج المتميز “محمد شاكر خضير” الذي يعرف كيف يقدّم الممثلين في أدوارهم المرسومة بعناية، وكيف يقسّم مشاهد كل حلقة بينهم بدقة واعتناء، وكيف يعرض هذا كله على الشاشة محافظًا على تناغم كل أجزاء العمل، كأنما يعزف بنفسه تلك السيمفونية.
اختيار مكان التصوير
لا يفوتنا أن نوجه تحيّة لمن اختار موقع “جراند أوتيل” في ذلك المكان الخلاب من أسوان على ضفاف النيل، فاقترب بمكانه من روح العمل وشخصياته من جهة وابتعد عن الأماكن التقليدية التي يدور حولها القصص والحكايات والتي تبدو بعيدة كل البعد عن عالمنا وواقعنا، وكم كنت أود أن يطول دور الممثل “أمير صلاح الدين” أكثر، ليعرضوا لنا من خلاله عالم “أسوان” الأخرى ، ولكن بقي أن ذلك الاختيار أضفى جمالاً خاصًا على المسلسل وطبعه بطابع رومانسي مريح للعين والقلب معًا.
تماسك السيناريو والحوار والتفاصيل
لفت نظري منذ بداية المسلسل أن هناك حرصًا على بناء شخصيات من خلال حوار يحمل دلالات ومعانٍ تتجاوز اللحظة وتعرض جوانب من حياة وتفاصيل كل شخصية على حدة، ولذا نجد أنفسنا قد تعاطفنا بسرعة مع مشهدٍ قصير بدا فيه “محمد ممدوح” ذلك المحب الولهان الذي لا تبادله حبيبته أي اهتمام، كذلك تلك العلاقة الخاطفة التي نشأت فجأة بين الخادم “علي” و”نازلي هانم” مصادفة سريعة ولكنها كانت محملة بالحب من أول لحظة، والجميل أن التصاعد الدرامي جاء ليخدم مثل هذه اللقطات وغيرها الكثير ليجعلها متوترة ومشدودة، ويجعل المشاهد مترقبًا لمصير كل علاقة مهما كانت بسيطة وعابرة، لأنها مرسومة بدقة وذكاء.
ورغم أن القصة تبدو “بوليسية” في خيوطها الرئيسية (منذ حادثة اختفاء ضحى، حتى اكتشاف سر “أمين” واستحقاقه لجزء كبير من “جراند أوتيل”) إلا أن المتابع للمسلسل يكتشف أنه هناك تفاصيل أخرى تجذب انتباهه في العلاقات الإنسانية بين أفراد الأوتيل بالمقام الأول، ومشاعر مختلفة بين شخصيات المسلسل، تترواح بين الحب والكره والغضب والحزن والشفقة والصداقة، كلها يتم عرضها بطريقة بسيطة واقعية ولمّاحة، لا يلجأ الكاتب فيها إلى “الميلودراما الزاعقة” ولا المواقف المفتعلة، بل إننا نذكر تمامًا كيف تم تصوير مشهد موت “ضحى” بتقنية صامتة ولكن بطريقة توضح ردود فعل أخوها “علي” في ملامح وجهه!
كل المشاهد التي تبدو فيها “الدراما” أو الحزن في أعلى درجاتها يتم تصويرها بواقعية وهدوء شديدين، هذا ما يحدث في الواقع، الصدمة تلجم اللسان وتحيّر العقل، لهذا نرى الحيرة والصمت في وجوه “أمين” و”إحسان” مثلاً حينما يعرفا حقائق الخدعة التي كانا يعيشان فيها، ولا يمتلك “أمين” كلماتِ كثيرة أو خطابية زاعقة أو جملاً مؤثرة ليعبّر بها عن سخطه على أبيه الذي تركه خادمًا بينما كان من حقه أن يكون بين البهوات!
تجدر الإشارة أيضًا إلى أن “تامر حبيب” قد أشاد بفريق السيناريو الذين عملوا معه في المسلسل “سماء أحمد و إنجي القاسم ومحمد المعتصم ومحمد مجدي” تلك الإشارة والإشادة التي تؤكد أن إتقان هذا العمل جاء بتعاون روح الفريق الذين أشرف عليه ووضع بعد كتابتهم ومجهودهم رؤيته الخاصة التي أدت إلى خروج المسلسل بهذا القدر من التماسك والجودة
طاقم التمثيل
ولعل أكثر ما يلاحظه أي متفرج لأي حلقة من “جراند أوتيل” أن هناك ممثل محترف يشاهده، ولا أعلم كيف يضع “المخرج” بصمته الخاصة على ممثل ما فيجعله على هذه الهيئة، ربما يكون الحديث عن “أنوشكا” ودورها في المسلسل معتادًا أو عاديًا فكاريزما الدور تمنحها تلك الثقة والثبات والشر الواثق من نفسه، ولكن ماذا يفعل الآخرون؟ وكيف يفعلون؟ هل شاهدتم مثلاً “محمود البزاوي” في دور “صديق/رئيس الخدم” كأننا نشاهده لأول مرة يؤدي الدور بإتقانٍ بالغ، ويتحدث مع الخدم ومع رئيستهم “الست سكينة” بشكل ذكي وأخاذ، هل شاهدتم الفتاة الصغيرة البسيطة “فاطمة/مي الغيطي” وكيف عبّرت بكلماتها ونظراتها عن كل مكنون شخصيتها؟ أكاد أشعر أن كل فردٍ/ ممثل في هذا المسلسل قد جاء في مكانه تمامًا وأدى دوره كما ينبغي له وأكثر، “دينا الشربيني” في دور “ورد” الخادمة المستضعفة الذكية في الوقت نفسه، وكيف كان مشهد “ولادتها” صادقًا ومؤثرًا، هل شاهدتم “محمد حاتم/إحسان باشا” في دور يجمع باقتدار بين المحب الحريص على حبيبته/زوجته، والحريص على إرضاء والديه في الوقت نفسه! وكيف بقي نموذجًا للباشا “الإنسان” الحريص على كسب الآخرين، وكيف كان حتى بعدما اكتشف خيانة زوجته محترمًا في تعامله، في مقابل دور “أحمد داود” الذي احترف هو الآخر في تقديم الشرير الوغد الانتهازي الوصولي، والذي يحب بطريقته الخاصة ويرغب في “امتلاك” حبيبته بكل طريقة ممكنة!
ولا يمكن أن ننسى الدور الرائع الذي أدته ببراعتها المعهودة “أمينة خليل” لدرجةٍ بدت فيها وكأنها “الأميرة نازلي” بالفعل واحدة من “أميرات” الحكايات بملامحها وتعبيرات وجهها أوقات الفرح والسخط والغضب والحب وضحكتها التي كانت تنير الشاشة في أبسط المواقف
قد يبدو هذا المقال مدحًا مفرطًا للمسلسل، وقد يكون هناك بعض الثغرات بالفعل أو المصادفات غير المنطقية التي تناثرت هنا وهناك، ولكني أعتقد أيضًا أن عين الرضا عن كل عيبٍ كليلة، وأن هذا المسلسل استطاع في النهاية أن يهدينا قدرًا كبيرًا من الجمال والمتعة على مستويات مختلفة فوجب علينا أن نتغاضى عمّا قد يكون فيه من عيوب.
شكرًا لجميلات العمل “أمينة خليل” و”ندا موسى” و”أنوشكا” والمتألقة دومًا “سوسن بدر”
شكرًا لـ تامر حبيب وأحمد شاكر خضير
شكرًا لـ جراند أوتيل .
نرشح لك
بالصور : فنانون وإعلاميون وكتاب ونقاد في ضيافة إعلام.أورج
10 اختلافات بين جراند أوتيل المصري والأصل الإسباني
شارك واختار .. ما هو “أسوأ” مسلسل في رمضان 2016 ؟ أضغط هنـــا