في مهارته الروائية البادية، يأخذ سمير قسيمي من «السرّ الأعظم» ما أملاه عليه، فيعبر به أجيالاً متتالية، مُبحراً في أزمنة وأمكنة تتصل ببلده الجزائر، وأقداره وتحوّلاته، مرافقاً المؤرخين والمستشرقين، مفتشاً في أرواقهم المعلنة والسرية، وسيرهم الخاصة، ومواقفهم العامة، فيكتب سيرة وطن، هو الجزائر، تماماً في الوقت الذي يتابع مصائر أشخاص متناثرين في المزمان والمكان، عبر عقود، بل قل قروناً من الزمن.
لعبة سردية بارعة تأخذ تنضدياتها على شكل نصّ ضمن نصّ؛ رواية ضمن رواية، وسرد طيّ سرد، وقول يتكئ على قول، لتتلامح في حين محاولات تفسير الماضي؛ كيف جرى، ولماذا، ورصد الحاضر وملابساته، في اتصال يمتدّ من العام 1830، يوم أن احتل الفرنسيون بهمجية بلاد الجزائر، حتى اليوم؛ فينتقل الحال من همجية الاحتلال، الذي كان، إلى وحشية الإرهاب، الذي سيكون، من دون أن يقدر هذا أو تلك على محو بصيص الأمل الذي توقده نضالات عنيدة، وتضحيات.
مدهشٌ «كتاب الماشاء/ هلابيل… النسخة الأخيرة» للروائي سمير قسمي، وهو يفيض عن مجرد رواية، ويذهب حدّ كتابة التاريخ، بثراء معلوماته، وتعدّد شخصياته، وتشابك علاقاتها. مثيرةٌ هذه المعرفة الضافية، والإمساك بتفاصيلها، وعناوينها، وتواريخها، والانتقال ما بين الأزمنة والأمكنة بمهارة نسّاج حاذق؛ يعرف كيف ينتقل من نسق إلى نسق، ومن لون إلى لون، راسماً تلك اللوحة التي كُتبت بدماء بشر وتضحياتهم، وربما بخيباتهم وانكساراتهم.
يقترب قسيمي في نصّه الروائي الجديد من الحاضر حتى يلامس اليوم؛ الراهن الحار الذي يلفحنا بوهجه الدامي، ويبتعد في الماضي، قرابة قرنين من السنين، فيلقي الضوء على وقائع لازالت مؤثرة في حال الجزائر، ووجوده وحضوره وهويته حتى اليوم. هكذا ينفر «كتاب الماشاء» من ترف الكتابة إلى ضرورتها، ومن لعبة الخيال في السرد ومجازاتها إلى إعادة خلق الحكاية وشخصياتها. كتابة من هذا الطراز تلعب دور المؤسس لعميق الذاكرة وقوي الوجدان ووطيد الهوية، ومقاومة التغريب والتغييب، على مستوى الأشكال والمضامين، في انتصار لشكل الروي، وفعله، والتصاقه بحياة الناس وذاكراتهم وانتساباتهم.
وإذ يتجوّل «كتاب الماشاء» في طول البلاد وعرضها، وفي حاضر وقائعها وبعيدها، ينبغي القول: هذا نصٌ لا يقوم إلا بالمعرفة الوافية؛ الدقيقة المُدققة. نصّ لا يستقيم إلا مع روائي يدرك أن عليه أن يكون باحثاً ومدققاً ومنقباً في نصوص تمارس غوايتها عليه، فتأخذه حتى منتهى السرّ، ولا تكشف عن ذاتها إلا للعارفين. نصّ يتوشّى بالمعلومات التي تظهر عمق معرفة الروائي وسعتها، واتصاله بالأخبار، والأشياء، والأحداث، والأزمنة، والأمكنة.
وفي اشتغاله على نصوص مكتوبة؛ حقيقة أم افتراضاً، وتسجيلات صوتية، ووثائق وأرشيفات، ومراسلات، وإن مُتخيّلة، يبدو «كتاب الماشاء» على تماسّ مع الدور الذي لعبه المستشرقون، والمستعربون، ومقتفو الأحداث، وراصدو الأشخاص، ومستطلعو الأمكنة، وهواة الاستكشاف… تماسّ يساهم في واحدة من وجوهه وأغراضه في إعادة الاعتبار للرواية العربية، وتناولاتها للأحداث والأشخاص والأمكنة؛ وإنشاء رواية عربية مُنقّاة ومُشذّبة من غايات وأغراض طالما أُلصقت، بحق أو من دون حق، بالمستشرقين، وأضرابهم، ونصوصهم ورواياتهم ومؤلفاتهم.
لماذا هزمنا؟ قد يبدو سؤالاً كبيراً، ولكن ما نميل إليه أننا لن نتخلّص من هزائمنا، ولا من محو آثارها، إن لم نستطع القبض على أسبابها، والتمكّن من رواي تها. وفي الجزم أن الاستمرار في الارتهان لرواية الآخر عنّا، ولما رسمه من صورة لنا، استمرار للدوران في الحلقة المُفرغة ذاتها، بالبؤس كله.
بلغة رائقة، وسرد متقن، وتفاصيل غنية، وشخصيات على قدر من الثراء والتنوّع، يصوغ سمير قسيمي روايته، ليأتي «كتاب الماشاء/ هلابيل… النسخة الأخيرة» متميزاً ومتفرداً بنكهته وطريقته ورؤيته… وبإضافته إلى المتن السردي الروائي العربي.
نرشح لك
حكاية المتهم البريء في تفجير الحرم النبوي
القائمة الكاملة لنجوم مهرجان إعلام.أورج – رمضان 2016
شارك واختر .. ناوي تدخل فيلم ايه في العيد؟ اضغط هنـــا