نقلا عن مجلة “أعناب” القطرية
لو أن نهرا عجوزا سار في رحلته الطويلة ومر بكل بكل محطاته وأصبح مرهقا على وشك الوصول لمحطته الأخيرة ليلقي بآخر دفقاته في مصبه، ونهر آخر يوازيه في المسار ولكنه في عكس الاتجاه، ماذا لو حدثت معجزة وجعلت النهر الهادر الذي لا يزال في عنفوانه يتقاطع مع النهر العجوز ويلقى فيه بعضا من أمواجه الفائرة، فكيف سيتلقاها النهر الذي استسلم بالفعل لاقتراب النهاية، وأي ذكريات يمكن للمياه الحارة أن تثيرها فيه
لم يكن عم شوقي يحتاج إلى مثل هذه المعجزة الجغرافية ليقرر بشكل ما أن النهاية التي استسلم لها و اعتبرها من حوله ” مسألة وقت ” لم يأن أوانها بعد
التفاصيل الصغيرة ربما تصلح مدخلا لقراءة شريط حار جاف صيفا القصير و الذي فاز مؤخرا بجائزة أفضل فيلم في مهرجان الاسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية في دورته ال 18 التي انعقدت في أبريل الماضي
نرشح لك : حار جاف صيفًا.. فيلم يُحرّض على “الأمل”
والفيلم الذي أخرجه شريف البنداري بطولة الفنان محمد فريد، ناهد السباعي، دنيا ماهر ومحمد عبد العظيم، ويشارك في إنتاجه حسام علوان، صفي الدين محمود، وكلاوديا چعبه، مونتاج عماد ماهر، سيناريو نورا الشيخ ومدير التصوير فيكتور كريدي.
الاحتفاء بالتفاصيل الصغيرة يبدأ من اللقطة الأولي التي يبدو فيها الرجل المسن النحيل و هو ينشر ” غياراته الداخلية ” في شرفة منزله العتيق فتسقط قطعة منها ليتابعها باهتمام حقيقي جدير برجل اعتاد أن يضع كل شيئ في مكانه برتابة , و بنفس الاهتمام و الترتيب ينفذ تعليمات ابنه الوحيد الذي لم يستطع مرافقته في مشواره للطبيب الخبير الأجنبي
مريض سرطان مسن و في حالة متقدمة , رأسه الأصلع و قامته المحنية و خطواته شبه المعوجه و النظرة المستسلمة في عينيه تخبرنا بحالته قبل جمل الحوار , و مع ذلك لا ينسى أن يلتقط في طريقه قطعة الملابس الداخلية التي سقطت من الشرفة و يضعها في الحقيبة البلاستيكية التي تحتوى على صور فحوصاته و تحاليله .
و في سيارة الأجرة كل شيئ يسير في طريقه المحتوم برتابة إلى أن تحدث المفاجاة أو المصادفة القدرية التي يتقاطع فيها طريق الرجل الذي يسير باستسلام في طريقه لمصير محتوم ب”دعاء ” الشابة المفعمة بالحياة التي تسير في الاتجاه المعاكس و تستعد للحدث الأبرز في حياتها باستسلام من نوع آخر لأقدارها ,
تقتحم طريقه كما اقتحمت السيارة الأجرة مع صديقتها التي ترافقها في استعدادا لليلة العمر , فهي المقطوعة من شجرة و التي يتغيب عريسها عن مرافقتها في هذا اليوم لانشغاله باحضار أسرته و بالخطأ تأخذ وسط أكياسها الحقيبة التي تحتوي أوراقه المهمة في مفارقة
نرشح لك : البنداري: شخصيات حار جاف صيفًا مستوحاة من هذه الأفلام
ليست جديدة و لجأ إليها صناع الأفلام منذ زمن نجيب الريحاني , لكن شتان بين قاهرة الأربعينيات التي يتجول فيها ” سي عمر ” في فيلم الريحاني و نيازي مصطفي و بين القاهرة التي تقطع فيها السيارة الأجرة بعم شوقي و دعاء زحامها بصعوبة في يوم صيفي حار
المصادفة تجعل عم شوقي يتجول بحثا عن العروسة التي تحمل أوراقه بين محلات ” خياطة ” فساتين الأفراح و مصور العرائس حاملا باقة زهورها التي نسيتها في واحد من هذه الأماكن لتجعل رجلا يقترب من الموت جزءا من طقوس الحياة للشابة الثرثارة التي تستسلم لرغبة عريسها في أن ترتدي الحجاب يوم زفافها و أمنيتها أن تبدو جميلة في ليلة العمر و أن تلتقط صورة زفاف , فيتأخر العريس و تطلب من عم شوقي أن يرافقها لل” مصوراتي ” الذي يتحايل على غياب العريس بأن يطلب من عم شوقي أن يقف بدلا منه في الصور ليستبدلها لاحقا بصورة العريس واعدا العروس بأن أحدا لن يلاحظ الفرق و أنها ليست المرة ألأولي التي يقوم فيها بعمل مماثل
النظرة التي تضيئ وجه محمد فريد ( عم شوقي ) عندما يتصور راكبوا السيارات في الشروارع المزدحمة أنه العريس بجوار العروس و لا يمنعهم التناقض البادي بين مظهره العجوز و شبابها من توجيه تحية قاهرية لهما من خلال الكلاكسات أو مزامير السيارات , بل و التقاط الصور لهما بكاميرات الهواتف النقالة , و الطريقة التي يبدو فيها كما لو كان أحدهم يضخ حياة جديدة في عروقه و هو يضع يده حول وسط العروس و على كتفها بحسب توجيهات المصور التي ينفذها في البداية بتوتر ظاهر تشاركه فيه العروس ثم الاندماج لكليهما , فهو يحظى بلحظة كأنها عادت من ماضيه الشاب و هي تندمج مع صورة الزفاف التي أرادتها بشدة و لا تريد أن تسمح لغياب العريس بإفسادها
التفاصيل تبدو أيضا في بصمات مصممة الملابس ريم العدل التي تلتقط تفاصيل العروس المحجبة في بيئة شعبية يبدو فيها الحجاب بالنسبة للفتيات أقرب إلى زي تجبرهن الظروف على ارتدائه و يتحايلن عليه بالخصلات او ( القصة ) المصبوغة بصبغة رخيصة , و طبقة المكياج الكثيف التي تحدد وجه العروس بدرجات أفتح من بشرتها , و الرغبة في ارتداء فستان مكشوف يتم التحايل عليها ب”بدي ” من لونه , و حتى الشبكة الذهبية التي تحرص العروس على ابرازها
نرشح لك : محمد فريد عن حلاقة شعره في “حار جاف صيفا” : بيقولوا موضة
ليبدو بعد ذلك عم شوقي في عيادة الطبيب الأجنبي الذي يتحدث عن حالته الميئوس منها و التي لا يرغب في تضييع وقته معها , فهو وفقا لفحوصاته ليس أكثر من ” رجل ميت بالفعل ” , في الوقت الذي ينشغل فيه عم شوقي بحرص بالغ بالتقاط قطعة ملابسه الداخلية التي سقطت من الكيس
و ينتهي الفيلم و دعاء تسير في حياتها التي تحتفي فيها ببهجات صغيرة مع طفل صغير و ببطن منتفخ بآخر و صورة على الجدار مع عريسها – متقنة – كما وعدها المصوراتي , بينما يلعق عم شوقي في شرفته ” الجيلاتي ” احتفاء بذكرى صغيرة تركها له النهر الهادر و قد نما شعره من جديد و على الجدار صورة له مع عروس صغيرة تخلد ذكرى لدفقة حياة بثت في العروق اليابسة لرجل ميت لتذكرنا بأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة , و أن التفاصيل الصغيرة تصنع أيامنا.
نرشح لك
[ads1]
هذا ما فعلته C.A.T في عامها الأول
ايهما أفضل فيلم “كابتن مصر” ام فيلم “جحيم في الهند” ؟ اضغط هنـــا