جريدة تقدم نفسها علي إنها ملحدة، لا تؤمن بالميتافيزيقا، لا تؤمن بكل المقدسات التي يؤمن بها معتنقي الديانات الإبراهيمية، و لا حتى غير الإبراهيمية، الأمر بالنسبة لهم تحويل كل شئ في الوجود إلي رسومات ساخرة، يعبرون عن وجهات نظرهم المتحررة طبقاً لقوانين بلادهم التي تعطيهم الحق في ذلك بل و تحميهم إذا تعرضوا لمخاطر نتيجة أعمالهم الصحفية!!
المجتمع الفرنسي مجتمع متنوع يحكمه القانون الذي دومًا يحافظ علي بقاء الدولة العلمانية التي تخلق مكاننًا لكل فرد داخل حدودها، والدولة بقوانينها تكفل حق الاعتقاد للجميع أما الذين لا يعتقدون في أي شئ، فهؤلاء تضمن وجودهم سالمين ولا تمنعهم من ممارسة حقوقهم كاملة في التعبير عن الرأي ونشر أفكارهم كما يريدون مادام يلتزمون بالسلمية ولا يحرضون أحد علي ممارسة العنف، لذلك هم لا يجدوا في أفكار شارلي ابيدو أي مشاكل حتى ولو كانت تصطدم مع ديانات الكثيرين منهم!
ردود أفعال الشعوب العربية حيال ما حدث من اعتداء إرهابي علي الجريدة، ردود مفزعة بالفعل!
جميعهم اتفقوا أن هذه الجريدة تحيك مؤامرة كونية ضد الإسلام و المسلمين، بل وصل الأمر إلي التماس أعذار مختلفة للقتلة الذين سفكوا دماء اثنا عشر رسام وصحفي من أجل حبر علي ورق! الغريب أنهم لن يترددوا في تمجيد القاتل ونعته بالشهيد عند موته، في نفس الوقت الذي سينعتون الضحايا بالمجرمين الفاسقين أعداء الدين!
مع أن الأمر مختلف تمامًا من وجهة نظر إنسانية أو حتى أخلاقية! فالأمر يتعلق بالسخرية وحرية الرأي طبقًا لقوانين بلادهم التي تدعم حقهم في ذلك!!
أزمة الشعوب العربية أنها لازالت حبيسة الخيال، لازالت تعيش في أوهام إنها صاحبة الحق في تأديب العالم كله، مع إنهم قد لا يجدوا زاد يومهم إذا غضب عليهم من يصفونهم بالزندقة و الإلحاد! أزمتهم هي عدم القدرة علي تقبل جميع أنواع الأفكار، المستهجن منها قبل المعتاد، الصادم قبل البسيط، لم يتعلموا بعد أن الأفكار مهما اختلفت تظل أفكار مادامت لا تحث علي رفع السلاح أو قتل المختلفين معها، ويمكن مبارزتها بأفكار معارضه داخل حلبة للصراع الفكري حيث لا عنف وفي اطار راقي بعيداً عن الهمجية وتراشق الأيدي!!
تظل هناك أكذوبة يتادولها الكثيرون، أكذوبة الإساءة للأديان، لا اعتقد أن رسوم مهما بلغت فجاجتها أو أفلام مهما بلغ تزيفها يمكن أن تحمل إساءة للدين بقدر نقطة دم تسفك بحجة الدفاع عن الدين ضد الإساءة له، لا اعتقد أن رسوم شارلي ابيدو تبدوا أكثر إساءة للإسلام من أفعال داعش و أمثالها، لا اعتقد أن العالم أصلا كان يهتم لرسومات شارلي ابيدو قبل وقوع حادثة الهجوم عليها، لكن بغباء وإجرام منقطعا النظير من منفذي الهجوم، أصبحت شارلي ابيدوا أهم صحيفة في العالم وارتفع توزيعها من ستين ألف نسخة قبل الهجوم إلي ثلاثة ملايين نسخة بعد المذبحة!!
مذبحة شارلي ابيدو تعتبر كهجوم الحادي من سبتمبر بالنسبة لفرنسا، ومع ذلك إجراءات الحكومة الفرنسية لم تسلك مسلك العقاب الجماعي لأبناء دين مرتكبي الحادث، بل أكدت أنها أفعال تتنافي مع صحيح الإسلام، وتحدثوا عن الفاعلين علي إنهم مواطنون فرنسيون اخطاؤا ووجب محاكمتهم مع العلم أن حفنة ليست بالقليلة من مسلمي الشرق اعتبروا الجناة أبطال وانتصروا لدينهم، مشهد يجعلك تكره كونك شرقي، حكومات الغرب تبرأ الإسلام والشرقيين يريدوا أن يثبتوا التهمة علي اعتقاداته!!
قد تختلف فكريًا مع شارلي ابيدو وهذا مرحب به ولن يختلف معك أحد إن قمت بأعمال أدبية وصحفية تعلن فيها اختلافك هذا، ولكني أجد أنه لا خلافًا إنسانيًا حول تجريم ما حدث، وهذا يجعلنا نتيقن أن الأفكار تحارب بالأفكار وليست بالعنف، وما تعتبره أنت إساءة لدينك ماهو إلا حرية للرأي والتعبير في بلاد تخلصت من التبوهات المقدسة وأطلقت العنان لخيالها ليصطدم بكافة الثوابت التي يؤمن بها جميع معتنقي الأديان سواء الإبراهيمية أو غيرها، واعلم أنه يوم أن ترفع السلاح لترد علي حبر علي ورق، فأنت لا ترد الإساءة علي الدين بل تثبت أي اتهامات باطلة تطلق عنك وعن اعتقادك!!
اقرأ أيضًا:
فرنسا توقف ممثل كوميدي بتهمة تبرير الإرهاب