حين تهم بكتابة مقال فى رثاء فنان بقامة وقيمة محمد خان ، من الطبيعى أن تتبادر إلى الذهن كلمات الرثاء التى تجلب مزيداً من الأسى لفقد شخص يستحق أكثر مما كتبته الأقلام العربية سواء أدباً أو شعراً فى فقد عزيز عليها ؛ لكن ما حدث معى كان العكس تماماً ، لم أجد فى جنبات العقل كلمات من هذا القبيل الرثائى الجالب للحزن ، تلك الكلمات التى يستعذبها العرب على إختلاف أقطارهم ولهجاتهم وطرق التعبير ، ويكرهها خان التى لم تفارقه الإبتسامة طيلة حياته ، حتى أننى خُيل إلىّ بأن خان لو قرأ ما سيكتب فى رثائه ــ وأظنه سيقرأــ سينتفض من رقاده ساخراً منا جميعاً صارخاً : ” مسيرها تروق وتحلى ” .
الموت بالنسبة لخان رحلة من رحلاته التى لم يوقفها تعطيل حصول على جنسية بلد لا تُعِر إهتماماً للمحلقين ، ولن يوقفها موتاً يراه خان رحلة بحثية فى أحد عوالمه الكثيرة التى دخلها بمحض إرادته الحرة الطليقة ، فخان هو ذلك الشاب الذى ما إن درس الإخراج وأتته الفرصة كى يخرج أول أعماله فوجد السينما عبارة عن أداة مكملة لتلميع شخص ما يرى فى نفسه نجماً وإخراج أعمال مفصلة خصيصاً من أجله ، أو كما يقال سينما البطل .. لم يرُق هذا الهُراء لخان ، ذلك الشاب الذى يحمل روح الطفل الذى يفعل ما يعن له فى أى وقت وبالطريقة التى يراها مناسبة لذائقته ، فأخرج أول أعماله ” ضربة شمس ” ليصبح فيما بعد علامة من علامات بطله الفنان الراحل ” نور الشريف ” . من هنا كانت الإنطلاقة ليس له فحسب بل لمخرجين شباب فى نفس حماسه وموهبته : داوود عبد السيد ، خيرى بشارة ، عاطف الطيب ، ويسرى نصرالله .. هؤلاء الأربعة ومعهم خان أسسوا لما عُرف فيما بعد بسينما المخرج .
إختار كل طريقه وطريقته فى الإخراج ، إتجه داوود لمناقشة القضايا الفلسفية وطرح الأسئلة التى لا جواب لها ، وإختار خيرى ويسرى الجانب الإجتماعى كلُّ بطريقته ورؤاه وكادراته ، وسلك عاطف الطيب الطريق الوعر والخوض فى أوحال الفساد المالى والسياسى الذى خلفته الحقبة السبعينية جراء معاهدة كامب ديفيد . أما خان فلم يكن يعنيه كل ما سبق من قضايا، فقد سلك الطريق الأكثر عذوبة .. ناقش خان الحب دونما إستدرار لدموع الفتيات فى السينمات ، الحب الطبيعى المجرد من الكلاسيكيات التى لا تصدق من فرط غرائبيتها ، فالحب فى سينما خان محفوف بالمخاطر والمعوقات دائماً ، تلك المعوقات التى ذاقها أغلبنا سواء من دولة بوليسية كما فى ” زوجة رجل مهم ” ، أو إجتماعية كما فى ” طائر على الطريق ” .
حتى أصعب أعماله دراميا لم تخلُ من الرومانسية الكامنة فى تفاصيلها ، من ينسَ إيادى أحمد زكى التى عدلت من شعر سعاد حسنى فى السيارة فى ” موعد على العشاء ” ، أو الحضن المتردد الذى قدمته بإقتدار فردوس عبد الحميد حين تخلت عن عقلها وتركت عواطفها وقلبها يسوقانها بعذوبة بين يدى أحمد زكى فى ” طائر على الطريق ” .. حتى عندما إختلفت الرومانسية فى الحقبة الأخيرة تحديداً فى بداية الألفية الجديدة ، أو بالأحرى إختفائها ، وجد خان أن الحل فى البحث عن الحب لأنه الحصن الأخير الذى حتماً سنأوى إليه حين تضيق بنا السُبُل كما هو الحال فى ” فى شقة مصر الجديدة ” ، للموهوبة وسام سليمان ، تلك السيناريست التى إكتشفها خان .
ولأن الحب والأحلام صنوان ، فقد عبر خان أيضا عن الأحلام فى غالبية أعماله ، لكن أيضا بفلسفته الخاصة ، فكما كان الحب فى أفلامه محفوفاً بالمخاطر ، فالأحلام أيضاً كانت فى أعماله مهددة بالقتل ، إما أن تنجوا وتحقق مرادها وهو أمر نادر كما حدث فى “خرج ولم يعد ” .. حين تضيق القاهرة بيحيى الفخرانى فلم يجد ملاذاً سوى القرية التى يأوى إليها بعيداً عن إزدحام القاهرة الخانق للأحلام .. وكثيرا ما تقابل تلك الأحلام بالقتل والسعى نحو تحطيمها .. فكلما كبُر الحلم كلما كثرت طرق قتله كما فى ” فارس المدينة ” ، ” طائر على الطريق ” ، ” ضربة شمس ” ، ” الحريف ” .
ورغم كل تلك المعوقات التى تقابل المحلقين الحالمين ، لم تكن سينما خان داعية أبداً للإحباط ، فحتى إن مات البطل تظل الفكرة ، وهو ما يهم خان فى أى عمل يقدمه ، أن ترى مثلا المآسى التى يمر بها كلا من ” أحلام وهند وكاميليا ” لكن يظل عالقا فى ذهنك جملة أحمد زكى الأثيرة ” مسيرها تروق وتحلى ” ، تصاب بالحسرة على ما آل إليه فارس ” عادل إمام ” فى ” الحريف ” حين يطلقها بائسة يائسة ــ زمن اللعب راح ــ لكن تلازمك أنفاس فارس اللاهثة طوال تتر النهاية ؛ حتى عندما يلقى أحمد زكى ” فارس ” مصرعه فى ” طائر على الطريق ” ــ لاحظ تكرار إسم فارس ــ تظل أسيراً لموسيقى الرائع كمال بكير الغارقة فى الرومانسية لكنها دائما ما توحى لك بالسعى لإقتناص الفرص المحققة للحلم ، فضلاً عن صوت عجلات السيارة البيجو فى الخلفية .
أبعد كل هذا ، هل من الفطنة القول أن محمد خان ليس موجوداً بيننا الآن ؟!
نرشح لك
[ads1]