تشهد وسائلنا الإعلامية والإعلانية حملات تشنها جهات وقوى شعبية غير منظمة للنيل من سمعة الإعلام والعاملين به. قطاع الاعلام في المنطقة العربية كان على الدوام يعمل ضمن منظومة الدولة والنظام ويسبح في فلكهما ولا يخرج إلا في نطاق محدود من الاعلانات المدفوعة والمقننة إلى أن ظهر عصر الفضائيات والصحف الخاصة مع بداية التسعينيات من القرن الماضي.
في ظل فترة احتكار التبيعة الإعلامية للدولة كان هناك قالب وشكل ورسالة واحدة ومحددة تبث من خلال هذا القطاع والذي كان يقتصر عدد العاملين به على بضعة آلاف لا تتجاوز السبعة (إذاعة- تليفزيون- صحافة) أما الآن فقد تغير الأمر وأصبحت التبعية متنوعة ومتباينة وعدد العاملين بصناعة الإعلام عدد ضخم.
في العصر الحالي تجد صحف قومية لا يقرأها الكثيرين، صحف مستقلة مختلفة التوجهات وبعض الصحف الحزبية التي لا تظهر صبغتها الحزبية إلا في الترويسة أو في بعض المقالات هنا أو هناك. الصحف القومية (أهرام – أخبار- جمهورية) كانت تتمتع بتفرد وجودها حتى مع بداية ظهور الصحف الحزبية والمستقلة وكان سوق الاعلانات الصحفية مقياساً قوياً على تفردها عن غيرها بإمكانية الوصول للمتلقي وبالتالي الرسالة الإعلامية “الحكومية المنبع” كانت تصل إلى نطاق واسع من السكان “القارئين”.
مع الوقت ومع فقدان الثقة بين تلك الصحف والقارئ، غدت نلك المطبوعات ضعيفة التأثير على الرأي العام وغير قادرة على تكوين توجه جمعي لأسباب عدة، منها ما حدث في السنوات الأخيرة من حكم نظام مبارك من صراع بين الحرس الجديد والقديم والإطاحة بأقلام ذات قيمة عالية من أماكنها واستبدالها بمن يطبلون ويزمرون للوريث المنتظر.
مع استسلام القديم للجديد تغير الوضع – وطغيت سطوة تيار التوريث الذي كان من الغباء بمكان بحيث أنه كان يستخدم من لا يتمتعون بالموهبة أو ضعيفي القدرات والنفوس في آن واحد. وعليه فشل نظام مبارك (أو من كان يعمل وقتها) في احتواء القارئ الجديد وابتعد عنه القارئ القديم وارتمت الأغلبية في أحضان الصحف المستقلة التي كانت قد تبلورت في ذلك الحين شخصياتها الصحفية ما بين وسطي ومعارض يميني أويساري.
وقامت ثورة 25 يناير فوجدت الصحف المستقلة نفسها أمام ملعب كبير متاح لها بكل مساحاته، وخرجت الصحف القومية من المعادلة بمجرد تنحي مبارك وقد بدا ذلك بشكل واضح حتى على العناوين الرئيسية للفريقين أثناء الأيام الثمانية عشر. على سبيل المثال تجد جريدة الاهرام في تلك الفترة تتبنى مبارك ونظامه (وهو أمر طبيعي) وبينما تتبنى جريدة المصري اليوم عنواناً رئيسياً بكلمة واحدة (انذار) وهو استمرار للجريدة في تبنى سياسة كبح النفس عن التجريح مع التلميح بوجود خلل، ومع اشتعال الأحداث في تلك الفترة تخلت المصري اليوم عن حذرها في سياستها التحريرية عندما اصبح لدى النخبة يقين (أو معلومة) برحيل النظام.
خلال الأيام الثمانية عشر انقطع وصول الصحف إلى المدن التي تقع خارج محافظة القاهرة وطغيت الفضائيات وتنافست على استقطاب المشاهدين بأي شكل وبأي ثمن. فما كان ممنوعاً أضحى مسموحاً وما كان مرفوضاً أمسى مطلوباً والضحية في النهاية هو المتلقي المسكين. ولم تكن هناك أي اعلانات في تلك الفترة تلهث ورائها الفضائيات وإنما كان المستهدف هو عدد الإشارات التي تستقبل بث القناة ونسبة المشاهدة والتي ستبنى على أساسها الخريطة الإعلانية في المستقبل ورتبتها في هذا السوق الكبير – ليس سوق ال 90 مليون مصري لكن سوق ال 350 مليون عربي. وينفتح المجال على مصرعيه وتظهرالعديد من المطبوعات التي قد لا ترقى لمستوى الصحف وحتى الصفراء منها فلم يكن هناك رادع ولا مانع فمن بيده مقاليد الأمور يريد أن تتم عملية تهدئة لحالة الغليان فترك من يقول يقول ما يريد ولكن لفترة.
وتأتي تطورات الفضائيات والتي تنوعت في فترة ما قبل يناير وحتى الآن بإختلاف الظروف المحيطة، ففي عصر مبارك كانت الفضائيات التي تختص في ما هو بعيد عن المحرمات الإعلامية (الدين والسياسة) إلا فيما ندر للتنفيس ولحفظ ماء الوجه (قناة دريم مثالاً) ويا حبذا إن كانت مشفرة (شبكة أوربت) والباقي منوعات ومسلسلات وأفلام وأغنيات بل ظهر التخصص الدقيق فمنها ما تخصص في الكوميديا فقط لا غير وهو ما يعد بمثابة تقديم محتوى ذو نوعية تنافسية (أو تنفيسية) عن المطروح في هذا السوق.
وبعد عصر مبارك تجد فجأة القنوات الدينية والتي تكثف تواجدها في وقت الاستفتاءات والانتخابات والتي باتت واضحة الهدف والأغراض، تصاحب مع هذا ظهور العديد من المواقع والصفحات والحسابات على شبكات التواصل الاجتماعي لنفس الأغراض بل كان منها ما يقوم بتجنيد الغير للشحن في اتجاه معين، قد نتناول هذا في مقال آخر عن الشبكات الاجتماعية.
ويستمر تطور الفضائيات وتتغير سياساتها التحريرية ومواقفها بتغير أصحابها وأشهر مثال على ذلك قناة التحرير والتي تنوع آدائها بشكل درامي وسريع مع توالي تغير المالكين مما أفقدها الهوية والمتابعين. وهناك مثال آخر على هذا التباين في المواقف في مجال الصحافة أصاب جريدة الدستور في عصر مبارك التي كان يرأسها ابراهيم عيسى المعارض الشرس لمبارك وقام بشرائها السيد البدوي لمدة يوم ثم باعها لرضا إدوارد ليقوم بتغيير كل من يعملون بها فوراً.
ومن ضمن أمثلة التغيير في التوجه قناة أون تي في والتي كانت صاحبة السبق في عرض كل ما يحدث بحياد يشار إليه في وقت الثورة وأثناء حكم المجلس العسكرى ومحمد مرسي من بعده إلى أن وصلنا إلى ثورة 30 يونيو، حيث تغير سياسة القناة بشكل واضح أدى إلى رحيل عدة أسماء من كبار مذيعيها (ريم ماجد ويسري فودة ونشوى الحوفي) عن القناة لعدم توافق آرائهم مع المنهج الجديد للقناة. ويظهر عمرو أديب الذي تم إيقاف برنامجه على قناة اليوم بشبكة أوربت في أواخر أيام مبارك مرة أخرى على قناة الحياة لمدة تقل عن الاسبوع ثم فجاءة يعود إلى قناته الأصلية.
في وسط تلك الفترات يظهر الجديد والمختلف، الآتي من خلف ستار الانترنت باسم يوسف، والذي لاقى برنامجه نجاحاً باهراً على اليوتيوب مما دفع إلى تبني فضائية اون تي في لبرنامج له يعرض عليها، والذي استمر لمدة سنة تقريبا، ثم توقف خلال الانتخابات الرئاسية ثم عاد بشكل انتاجي ضخم على قناة سي بي سي وكان أحد وسائل انتقاد حكم الاخوان وهو انتقاد كان في محله، ونعته الاخوان بانه مأجور لهدم حكمهم، وبعد زوال حكمهم حدث ما حدث وتوقف البرنامج لخلافات تجارية، وانقلب الاخوان على رأيهم وروجوا بأن ما حدث ما هو إلا تكميم للأفواه وكبت للحريات! وتجري الأحداث وتتقلب السياسات التحريرية والإعلامية لكل طبقاً لحسابات الربح والخسارة ومع التأقلم الناعم للأذرع الإعلامية التي تم تكوينها ببراعة يشهد لها تبدأ مرحلة جديدة في الإعلام المرئي والمسموع والمقروء ونبقى نحن في منتصف مصارعة الذراعين تلك نرجوا من الله رحمته.
كل هذا التخبط والخلط ليس ضحيته أحد سوى المتلقى المسكين والذي لا يملك من أمره شيئاً أمام الإعلام المفتري علينا والمفترى عليه.
اقرأ أيضًا:
محمد مندور: إعلام الفيسبوك وتويتر
محمد مندور: إعادة إنتاج عمرو خالد