تابعت مشهد النهاية القاسي للفيلم وتمنيت ألا ينتهي قبل أن يصل بنا إلى شاطئ نطمئن على «برِّه» حتى لو كان سرابًا، وهي رغبة إنسانية لا علاقة لها بالفن ودوره. وقاومت بعد النهاية دموعي بالوقوف مغادرًا غرفة العرض لأتخطى «الارتباك»، فوجدت أمامي محمد دياب أكثر ارتباكاً، فاحتضنته بحرارة مهنئًا وشاكرا على رائعته الفنية.. “اشتباك”.
كان ذلك في العاشر من يوليو، وقبل أسبوعين من إجازة الفيلم رقابيًا والسماح بتداوله في دور العرض المصرية، كنا في جلسة مشاهدة «خاصة» للفيلم، دعاني إليها مشكوراً الدكتور محمد فتحي، وشاركنا المشاهدة الزملاء الأعزاء الأساتذة: محمد هاني، وعماد الدين حسين، وشريف عامر، وصاحبَنا فيها من صناع الفيلم الإعلامي الداعية معز مسعود، والمخرج الفنان محمد دياب.
وعقب مشاهدتنا لفيلم «اشتباك» الناضج «فنيا» والمحايد «سياسيا»، عبرت لهم عن قلقي وحزني لأن هذا الفيلم سيتعرض لظلم كبير. فنياً: لن يُسمَع صوتٌ يتحدث عن جماليات لغته السينمائية أو إيقاعه أو أداء الممثلين أو الموسيقى أو السيناريو، فسوف يطغى على الفن صخب السياسة ومتاهاتها ومطاردات فصائلها والمنتفعين منها والعاملين عليها. وسياسياً: أعتقد أن أهل السياسة في مصر لن يتقبلوا الفيلم، فكل محاولة للموضوعية والحيادية والرصد العقلاني في هذا الزمان، تنتهي بصاحبها إلى النبذ المجتمعي في ركن العزلة ليقضي ما تبقى من عمره على «النوتي تشير» الذي أنتجته كل أنظمة ما بعد «يناير 2011»، ليصبح شعار «الانحياز التام أو الموت الزؤام» هو الأقرب لروح العصر.
ولهذا لم أفاجئ عندما تحدث مخرج الفيلم في جلستنا عن تأخر الرقابة في التصريح لفيلمه بالعرض العام، رغم أنها سبق أن أجازت السيناريو، وأشار دياب إلى إصرارهم على وضع العبارة التالية على أول مشهد في الفيلم: «أن أحداث الفيلم تدور عقب عزل محمد مرسي من رئاسة الجمهورية في مصر، عندما نزلت جماهير الإخوان المسلمين لإيقاف التحوّل (السلمي) للسلطة»، وهو ما قام به صناع الفيلم فعلاً بعدها بأيام كي يعبروا حاجز الوصول إلى دور العرض المصرية.
والعبارة «العابرة» التي تحمل «خاتم النسر» لا تتسق مع فكرة صناع الفيلم وحلمهم في تقديم مشهد «حيادي» عاقل للحظة تاريخية معقدة ومجنونة. وقد كشف هذا الإصرار الرقابي حالة «ارتباك» حكومي في التعامل مع «اشتباك»، رغم الثقل المعنوي الذي اكتسبه الفيلم بعد عرضه في الدورة الأخيرة من مهرجان «كان» السينمائي الدولي، والذي حظي فيه بإشادات عالمية معتبرة، والذي يحميه من أي «احتكاك»!!
وقد واجه «اشتباك» أيضا قبل عرضه تحرشا سياسيا (غير حكومي)، فانبرت كتائب الإخوان تسب وتلعن، وتطوع أرباب العهد البائد لتشويه صناع الفيلم. أما المفاجأة، فقد كانت في هجوم من وصفوا أنفسهم بـ«الثوار» واعتبروا الفيلم جريمة ثورية. المفارقة أن أكثر ما قيل هجومًا على الفيلم، إنه يجامل الإخوان أو يدعو للمصالحة معهم، في الوقت الذي أرى فيه، وبضمير مرتاح، أن هذا أول فيلم سينمائي (سينما بجد) يكشف الفكر الإخواني (دون تنظير فلسفي)، ويبرز كل عوراته وسلبياته بشكل فاضح وصريح، والفيلم يحملهم نصيبهم الحقيقي (النصيب الأكبر) من سلسال دم الأبرياء الذي سال في ربوع مصر بعد أن خرجت جماهير الشعب الغاضبة من حكمهم ثائرة.. هادرة.. تطمح في التغيير.
وقد همست في جلستنا المصغرة لصانعيْ الفيلم معز مسعود ومحمد دياب، بأنه لو أن في حكومتنا الرشيدة «عقلاً ثاقبًا»، لقرر على الفور عرض الفيلم في كل دور العرض المصرية، وشراء حق عرضه تليفزيونيا وبثه «شهريا» على كل شاشات التليفزيون الحكومي المصري. ولا دهشة في ذلك، لأن الفيلم ببساطة يمتلك كل مقومات مفعول حبوب منع «الثورة».
وبقدر ما يحسب لفيلم «اشتباك» من جرأة وجسارة في مبادرة تناول ما حدث في مصر بعد 30 يونيو 2013 بحيادية، يسهم الفيلم، دون قصد، في نبذ فكرة العمل الثوري، وكل مشروعات الراديكالية السياسية قاطبة، ملحًّا على قسوة الفاتورة التي يسددها الشعب ثمنًا لرغبته في التغيير، خصوصا إذا كان هذا الشعب على درجة من التناقض الرهيب تدفعه إلى التناحر والاقتتال مع أي اختلاف أو خلاف في الرأي، والكارثة تكون أكبر إذا كان الأمن طرفًا ثالثًا في معادلة الصراع.
أخيرا، وبعد أن خرج «اشتباك» للعرض العام، الشكر واجب لكل صناع الفيلم على مغامرتهم الفنية الجميلة، فالجميع أجادوا وأدى كل منهم دوره ببراعة. ولا شك في أن وصول «اشتباك» إلى شاشة السينما (الآن) يبعث برسائل صريحة لأطراف كثيرة سياسية وفنية، وربما كانت أهمها.. الرسالة التي وصلتني شخصيا.. والتي منحتني طاقة رهيبة من الأمل في شباب مصر ومبدعيها؛ أمل أستحضر معه على الفور كلمات عمّنا صلاح جاهين في قصيدته الشهيرة «على اسم مصر»، عندما قال: «مصر في الليل بتولد والبوليس على الباب.. صبية ولادة يابا ولحمها جلاب».
نرشح لك
محمد أبو شامة يكتب: البرشامة في الدراما
[ads1]