“البطاقة عايزه تتنشط” لم تكن أمى تعلم أن تلك الكلمة صافرة انطلاق رحلة عذاب تفوق عذاب الوقوف فى طابور العيش، سمعتها تمتم بكلمات بعد صلاة الفجر فهمت منها “إن الحاجة عايزه تدبسنى أنا فى مشوار وزارة التموين عشان أنشطلها البطاقة”، فوافقت أن أنفذ تلك المهمة خاصة بعد إخبارها لى أن الموضوع لن يستغرق 5 دقائق كما أكد لها بدال التموين، فى تمام الساعة الثامنة كنت على باب الوزارة بشارع قصر العينى .
طوابير ليس لها نهاية،اأشارت لى سيدة فاقتربت منها “عايزه تنشطى البطاقة” للوهلة الأولى انتابنى إحساس إنى أقف مع ديلر مخدرات، فهمست لى بصوت خافت”30 جنيه واخلصهالك وأنتِ قاعدة فى الضل”، فقلت لها “شكرًا” فأنا أحب الشمس ربما أحصل على التان الذى لم أحظى به كباقى الذين سافروا إلى الساحل، فنظرت لى مطولًا “ماشى يابسكوتة هتبوشى دلوقتى” لم أفهم المغزىن ولكن تأكدت أننى لست أمام مهلة سهلة.
اشارت لى سيدة أخرى، فأجبتها “لا .. شكرًا”، فضحكت “هو أيه اللى شكرًا يابنتى مش عايزه تنشطى البطاقة لازم تسجلى اسمك فى الكشف”، فأدركت الموقف واقتربت لأدون اسمى فوجدت نفسى فى الكشف الخامس وترتيبى رقم (9)، على العلم أن هناك ما يعادل تلك الكشوف فى طابور الرجال وكل كشف به 10 أسماء فمعنى ذلك أن ترتيبى هو الـ 99، بحثت عن مكان أجلس به لم أجد سوى الرصيف المرصوص عليه سيدات كُحلت عيونهم بهموم الغلابة.
جلست وسط ثلاث سيدات أعمارهم فى أواخر الستين تقريبًا، وبدأنا فى تبادل أطراف الحديث، شعرت فى صوتهم بدفء صوت جدتى، وفى قوتهم صلابة أمى، وقالت إحداهن “عملت 4 مرات حوالة بـ 20 جنيه وكل مرة يقولى البطاقة تالفة ياحاجة واعملى حواله جديدة، رجلى دابت يابنتى والله من اللف بس هو خمس أرغفة العيش بينفعونى أنا والراجل العيان اللى راقد فى البيت، شعرت فى تألمها وهى تمد رجلها التى لا تقدر على ثنيها من الوجع بأمى وهى تشكو من وجع ركبتيها.
وبصوت يشوبه بحة بكاء يرغب فى الخروج ولكن يمنعه الخجل، قالت سيدة آخرى، “مرات ابنى قالتلى حق أزارزة الزيت اللى بتاخديها وكيس السكر تروحى تصلحى البطاقة .. والله يابنتى ما فارق معايا لا زيت ولا سكر بس العيش اللى بيجى بينفعه .. ابنى ده على باب الله ومهما كان قلبه حجر قلبى عليه مطر، بس تعبت من البهدلة والجهل خيبة كبيرة مبعرفش أخد عقاد نافع مع الموظفين، ده أنا لسه منشطاها فى رمضان لحقت باظت.
تسحب قدميها من ثقل ما تحمله على رأسها، وتجفف عرق جبينها بطرحتها السوداء التى تضعها على رأسها، نحيفة، وجهها مألوف، قمت من أجل أن تجلس، فمازحتنى “أنا أصبا منك .. وأقدر أقف بالأيام لا اتعب ولا اشتكى”، فضحكت وجلست بجوارى، وقالت “التعب مقدور عليه .. لكن البطاقة كل يومين تخرب ويضيع علينا العيش وياخده صاحب الفرن وأحنا نبات من غير عشاء حسبى الله ونعم الوكيل” وجاء موعد تسليم البطاقات وقمنا بتسليمها وفقا للترتيب الذى سجلنا به أسماءنا، وطلبوا منا أن ننتظر تحت الشجرة حتى يتم تنشيط البطاقات وإعادة توزيعها علينا.
ووقفنا فى الشمس الحارقة 4 ساعات دون أمل فى الحصول على البطاقات، حتى ظهر شخص معه عدة بطاقات وبدأ فى قراءة الأسماء، وكانت غير مرتبة ولا أحد يعلم سبب توزيع البطاقات عشوائيًا سوى أن هناك بطاقات “عايزه شغل”، وهكذا حوالى 3 مرات وفى كل مره لا أجد أسمى بين الفائزين بالفرار من نار الشمس، وقال أحد الرجال يبلغ السبعين “اتحملوا الوقفة .. هنقف يوم الحشر كده ونستنى كتابنا ويانجحت .. يا خيبت”.
إنها أمى .. تذكرتها والسيدة العجوز ذات الطرحة السوداء تخونها قدمها وتجلس على الأرض ليصبح لون عبائتها السوداء متربا بتراب التعب والقهر ، وقتها رأيت أمى أمامى هل حقًا كانت تدعى أمامنا القوة وهى منهكة حد التعب، أنا التى لم يتجاوز عمرى الثلاثين تعبت ومللت من الوقفة فما بالها هى، وأحد الموظفين يتابع المشهد من خلف زجتج نافذته مستمتعا بهواء مكتبه المكيف وكأنه يشاهد مسرحية هزلية، شعرت كم تتعب أمى وتتحمل وفى نهاية اليوم تبتسم وهى تعد لنا الطعام أنا وأخوتى وتسألنا “الأكل حلو”.
ختامه مسك .. وكان لابد من نهاية مثيرة لهذا اليوم العظيم، وجدت شخصًا ما لطيف حد اللزاجة، يلتقط صورًا وفيديوهات لنا فى بورتو التموين، فواجبى كمواطنة أقدس مساحتى الشخصية، أن اطلب منه وقف التصوير وعدم تصويرى، فهاج وماج وبكل وقاحة قال لى بابتسامة صفراء “أنا حر وهصور واللى معاكى اعمليه”، ولم يقف الأمر عند هذا فتدخلت سيدات لطيفات بأقوالهن المآثورة “اعتبريه أخوكى يابنتى .. يعنى هو هيصور أيه .. اسكتى عشان أنتِ بنت”، وكان لتلك الجمل فعل الماء المغلى الذى صب على رأسى فاشعلنى غضبًا وشعرت بإهانة احرقت صدرى.
وفى المقابل كان الرجال يقفون فى وضع المتفرج المنتظر نهاية المعركة، وإنصافًا للحق تدخل رجل واحد قائلًا “عيب ياكابتن لو مراتك أو أختك مش هترضى حد يصورها”، استلمت بطاقتى وتوجهت إلى مكتب الأمن وقصصت لهم ما حدث فاصطحبنى رجل أمن إلى مكان جلوس اللطيف وطلب منه أن ياتى معه وهناك تدخلت طنط التى لا أعرفها “ليه يابنتى أنتِ بتحبى الحوارت” رددت عليها بتلقائية “خليكى فى حالك ياحاجة وأبقى خليه يصورك قبل ما يمشى واعتبريه أخوكى برده”، ودخلنا مكتب الضابط الموجود بالوزارة.
وبمجرد أن طلب منه الضابط إعطاءه الموبايل ليشاهد ما صوره تحول الأسد الجسور إلى أرنب مذعور وصرخ وعيط وونبى يا أستاذه أنا مراتى لسه والده وكنت بصور عشان أفرجها أنا بتعب عشانها أزاى، ومن المفترض أن أتأثر بقصة الحب الهندية هذه وفى النهاية اكتفيت بذلك ولماأحرر له محضر وقام بمسح الصور والفيديوهات، وخرجت وأنا أشعر بهواء نظيف يثلج صدرى بعد أن اخذت حقى فى وطن نعانى فيه نحن النساء من إنتهاك حياتنا وعلينا الصمت لأنك بنت.
اتصلت بأمى كى اخبرها أن المهمة تمت بنجاح، ورويت لها ماحدث فاعتذرت لى كثيرًا، إنها جعلتنى أمر بهذا اليوم الشاق، وقتها قلت لها أنا من اعتذر لكِ يا أمى عن كل يوم شاق مثله وأصعب مررتى به ولم تحكى لنا ما تعاني عن كل يوم جلستِ فيه على الرصيف بعد أن خذلتكِ قدماكِ، عن كل شخص قال لكِ كلمة أحزنتكِ، عن كل نقطة عرق روت جبينك وأنت ِ تقضين عمرك فى الطوابير من أجل خدمتنا، وفى النهاية أيقنت أن الخبز يأكل وجوه أمهاتنا.
نرشح لك
نسمة سمير تكتب: حينما نخذل.. رسائل السماء ترممنا
[ads1]