من الصعب جداً تعويض صحيفة «شارلى إبدو» عن خسائرها الضخمة ومصابها الجلل فى الحادث الإرهابى الشائن الذى استهدفها، واهتزت له مشاعر الناس فى أنحاء كثيرة من العالم.
ومع ذلك فثمة أخبار طيبة للصحيفة بموازاة صدور عددها الأول فى أعقاب الحادث المريع؛ إذ بلغ عدد النسخ المطبوعة منها ثلاثة ملايين نسخة، بـ16 لغة، أى إنها ضاعفت نسخها 50 ضعفاً، إذ لم يكن ما تطبعه عادة يتعدى 60 ألف نسخة أسبوعياً، تبيع منها بالكاد 30 ألفاً.
سيعنى هذا أن تلك الصحيفة «المتواضعة» سيمكنها تحقيق نحو 11 مليون دولار من عوائد بيع النسخ المطبوعة فقط، وهى قيمة ترتفع إلى نحو 20 مليون دولار إذا أضفنا العائد المتوقع للإعلانات، بما يوفر لها أرباحاً لم تحققها طيلة سنوات عمرها الـ22.
ليس هذا فقط، لكن هناك ما هو أكثر، فقد بلغ ثمن النسخة الواحدة من الصحيفة للبيع خارج فرنسا، عبر الإنترنت، نحو 600 دولار، كما يوضح موقع «إى باى» EBAY للمزادات.
بعد الحادث المرير الذى تعرضت له «شارلى إبدو» يبدو أنها تجنى أرباحاً كثيرة، ليس فقط على صعيد الرواج والمال، ولكن الأهم من ذلك أنها باتت «رمزاً عالمياً لحرية الرأى والتعبير»، و«أيقونة ضد الإرهاب»، و«مثالاً يحتذى لمئات الصحف المهمة»، بعدما كانت مجرد صحيفة «تافهة» تتسول الزبائن بالممارسات الحادة والمهاترات والتبجح.
ليست «شارلى إبدو» الرابح الوحيد من هذا الحادث المأساوى، لكن اليمين الفرنسى أيضاً حقق ربحاً كبيراً؛ إذ سيجد ما يساند سياساته الرامية إلى تقييد الهجرة، والتضييق على الأقليات، وسيجنى أصواتاً أكثر فى أى استحقاق انتخابى مقبل.
إسرائيل أيضاً حققت ربحاً جيداً، ولعل ذلك هو السبب الذى تخطى من أجله بنيامين نتنياهو قواعد البروتوكول، وأصر على زيارة باريس، رغم تفضيل الحكومة الفرنسية عدم قيامه بتلك الزيارة بداعى «صعوبة التأمين». لقد انتهز نتنياهو الفرصة ليثبت أن يهود فرنسا معرضون للاستهداف، وأن مكانهم «آمن وجاهز لاستقبالهم فى إسرائيل»، وأن العرب والمسلمين «إرهابيون»، وكلها عوامل ستصب فى خزائنه السياسية خلال الانتخابات المقبلة.
وحتى تركيا رأت أن تسارع للاستفادة من الموقف، رغم إدراك الكثيرين تفاصيل تعاونها مع «داعش» وغيره من التنظيمات المتطرفة داخل الأراضى السورية. فقد حرص داود أوغلو على الظهور فى الصف الأول بين المعزين فى جنازة الضحايا، قبل أن يتوجه إلى المسلمين فى أوروبا مطمئناً: «لا تخافوا.. تركيا لن تتخلى عنكم، وهى ستفعل كل ما بوسعها لحمايتكم».
الحكومات العربية التى تعانى من ويلات الإرهاب والتطرف وجدت فرصة سانحة أيضاً لكى تلوم الغربيين: «ألم نحذركم من دعم التطرف تحت عنوان حقوق الإنسان؟ لا تحدثونا عن الديمقراطية حتى نقضى على الإرهاب».
أما واشنطن، فستجد الذرائع الكافية لتبرير رغباتها فى تطوير تدخلها فى المنطقة، وستكون قدرتها على الحشد أسهل، تحت ستائر الدخان الداكنة التى خلّفها هذا الحادث الأليم.
الإرهابيون أيضاً سيحققون أرباحاً؛ إذ أثبتوا قدرة على توجيه الضربات المؤثرة، وإحداث الصخب الإعلامى المدوى، ومداعبة مشاعر المتدينين البسطاء، وزيادة درجة الاحتقان فى المنطقة وخارجها.
فهل يمكننا أن نحقق أرباحاً مثل الآخرين؟
بكل تأكيد، سيمكننا ذلك، إذا قمنا بإدانة هذا الحادث المأساوى بلا أى تحفظ أو تهوين، وأوضحنا الارتباط الفكرى الوثيق بين جميع الحركات «الإسلاموية»، وسجلنا دور الغرب فى دعم التطرف فى بلادنا عبر المساندة والاحتواء والإيواء، وأظهرنا احترامنا الشديد لحرية الرأى والتعبير، وأوضحنا أنها لا يجب أن تنطوى على أى ممارسة تحرض على العنف، أو تثير الكراهية، أو تكرس التمييز بين البشر، أو تطعن فى عقائدهم وتحط من شأنهم.
نقلًا عن “الوطن”