لؤي الخطيب
في العقود الماضية كانت فكرة “التنوير” التي تُشير إلى تنقيح التراث الديني، فكرة نخبوية يختص بها المثقفون دون غيرهم، بل إن مُجرد الحديث عن وجود مُشكلة في كتب التُراث الديني كانت بعيدة عن أذهان عامة الناس، إلى أن ظهر برنامج تليفزيوني على قناة القاهرة والناس يحمل اسم “مع اسلام بحيري” ليكون أول مادة تنويرية تُقدم خارج الصالونات الثقافية، او الكتب التي يشتريها من قرر الدخول إلى هذه المنطقة الشائكة وهم قلة.
لأول مرة تُقدم هذه المادة بأسلوب سهل، يصل إلى الجميع، بمُصطلحات بسيطة غير استعلائية او نخبوية، ويمكن التعبير عن أسباب نجاح هذه التجربة في النقاط الآتية:
1 قدم إسلام بحيري حلقات برنامجه لأول مرة في ظل حكم الاخوان، حيث وافق وقت تقديمه للبرنامج حالة مُجتمعية تنفر من العنف ومن استخدام الدين لأغراض سياسية سواءً من الإخوان او الجماعات السلفية او غيرها حتى من خارج مصر، لتكون بذلك فرصة مُجتمعية للاستماع إلى طرحٍ جديد يمكن أن يكون طوق النجاة.
2 بدأ اسلام بحيري حلقاته في عهد الاخوان بالتعليق على الموضوعات التي تشغل الرأي العام المصري في ذلك الوقت، خاصتًا حينما يتناول ما يصدر من بعض نجوم السلفيين والإخوان، وكذلك الربط بين ذلك وبين ما تحتويه كتب التراث، لذلك وجد المُشاهد أن المادة التي تُقدم قريبة من دائرة اهتماماته ومن الاحداث التي تدور يوميًا.
3 لم يتعدى الوقت المُخصص للبرنامج منذ أن بدأ حتى الآن النصف ساعة، وأحيانًا لا يصل إليها، مما أعطاه ميزة ألا يكون ضيفًا ثقيلًا على المُشاهد خاصة وأن المادة التي يقدمها ليست بسيطة، وكذلك منحه ذلك ميزة في مواجهة من يردون عليه، حيث يصل أحيانًا الرد عليه إلى الساعة وربما أكثر في حين أن حلقات “مع اسلام” لا تتعدى النصف ساعة!
4 عادةً لا يخرج الرد على اسلام بحيري عن إطار السب والشتم والتعرض لشخصه، بينما لا يُقابل الفكر الذي يُقدمه بفكرٍ آخر يُقنع المشاهد او على الأقل يُشككه فيما يقوله اسلام، لذلك أصبح بحيري أشبه بمن يتحرك في ملعب كاملٍ وحده والباقون خارج خط التماس!
5 في الحلقات التي بدأت منذ شهر سبتمبر 2014 ومُستمرة حتى الآن يتناول اسلام بحيري موضوعاتٍ تتصل أحيانًا بالأحداث المحلية وأحيانًا بالأحداث التي يمر بها الوطن العربي كله مما أدى إلى انضمام جمهورٍ عربي إلى مُتابعيه.
6 في نفس تلك الحلقات لم يعتمد بحيري على إبداء رأيه او فكره الشخصي من خلال نظرة فلسفية بعيدة عن النصوص الدينية، وإنما كان يرد على ما تحتويه كتب التراث في موضوعٍ معين بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، مما يُضفي مصداقية أكثر على البرنامج وعلى المادة المُقدمة.
هذه التجربة تُعد الأولى من نوعها التي تقدم التنوير للجمهور العادي، فهي تُمثل فرصة ذهبية ربما لا تتكرر لعقود أو قرون أخرى من الزمن، لذلك فهي تحتاج لكل رأي صادق ربما يساعد على إبرازها أكثر بما يعود بالنفع على فكرة التنوير بشكل عام.
ويمكن تحويل برنامج “مع اسلام بحيري .. ” إلى بذرة ينطلق منها التنوير في العقود القادمة من خلال مجموعة من الأفكار بعضها يقع على عاتق فريق البرنامج وعلى رأسهم مُقدمه، وبعضها يقع على القناة التي فتحت له النافذة من البداية وهي:
1. علق د. إسلام في احدى الحلقات على رسائل تصله تطلب إطالة مدة الحلقة قائلًا: انا عارف بخبرتي المدة التي يمكن للعقل ان يستوعب فيها بتركيز ما يُقال فبالتالي مُدة البرنامج مُناسبة. وبالرغم من أن هذه حقيقة بالفعل إلا ان المشكلة أحيانًا لا تكون في مدة الحلقة وإنما في محتواها، فكثيرًا ما ينتظر المُشاهدون مُحتوى مُعين ضمن سلسلة حلقات تتناول أحد الموضوعات ليُفاجئوا حين إذاعة البرنامج أن استطرادًا في الدقيقة التاسعة او العاشرة قد التهم بقية الحلقة ليحيلها إلى موضوع فرعي، فحتى إن كان ذلك داخل السياق العام للموضوع إلا أن التخطيط الجيد للحلقات سيجعل الاستطراد ضمن الخطة فيتم تهيئة المُشاهد أن الحلقة التالية ستتناول موضوع مُعين حتى وإن كان فرعيًا ولكنه في السياق العام.
2. الدعاية التي تقوم بها قناة القاهرة والناس للبرنامج أقل كثيرًا من الدعاية التي يستحقها برنامج كهذا، فبينما كانت الدعاية لبرنامج “الراقصة” ملء السمع والبصر نجد أن برنامج اسلام بحيري يحظى بدعاية من مُهاجميه أكثر من القناة التي يُذاع عليها.
3. الدخول في دوامة الرد على المُهاجمين سُيخرج البرنامج من سياقه الأساسي بكل تأكيد إلا ان تخصيص حلقة واحدة شهريًا للرد على من ينتقد طريقة تناول البرنامج لبعض الموضوعات لن يضر، ولا يعني ذلك أن يكون مُحتوى الحلقة على نسق “فيديو ثم رد” وإنما تجميع ما تم طرحه من المُهاجمين والرد عليه في الحلقة حتى دون ذكر أسمائهم حتى لا يكون الطرح أحادي الجانب ومن أجل مزيد من التفاعل.
4. استخدام بعض الألفاظ التي تخرج احيانًا عن السياق يؤذي أذن المشاهد التي امتلأت اصلًا بمن يصرخون ليل نهار على شاشات التليفزيون سواء في القنوات السلفية او غيرها، وبمن يتطاولون على الجميع، بالإضافة إلى أن الهجوم على الأفكار المُتطرفة التي تمتلئ بها كُتب التراث لا يحتاج منك أدنى تجاوز، فما تحتويه تلك الكتب يكفي كما أن وجبه فكرية كتلك التي تُقدم في البرنامج يجب أن تظل عند مستوى معين لا تنحدر عنه في أي لحظة منها.
5. الاستجابة لطلبات إجراء المُناظرات على القنوات الفضائية يضع البرنامج ومُقدمه في دائرة الخطر، عندها سيفقد البرنامج قيمته الحقيقية، وسيتحول إلى نجم فضائيات يتكلم يما يُثير الجدل من أجل الشهرة وتضيع فرصة حقيقية للتنوير في مُقابل هذه الشهرة، إلا ان الحالة الوحيدة التي يجب أن يستجيب لها اسلام بحيري هي المناظرة التي ترعاها المؤسسة الرسمية وهي الأزهر، وهو بالفعل قد طلب ذلك منهم في إحدى الحلقات.
6. كلمات رئيس الجمهورية عن الثورة الدينية، وتنقيح الفكر الديني هي امتداد وتفاعل مع ما يُقال في برنامج “بحيري”، ويجب أن تُستغل هذه الفرصة ليس فقط على مستوى المُثقفين والمُفكرين ومن يحرصون على حضور الندوات الثقافية وإنما يجب أن يتم اقتحام المُجتمع خصوصًا من خلال الجامعات حتى تصل الفكرة للجميع، لتبدأ بذرة التنوير من مصر وتنتقل إلى بقية الدول العربية التي تُعاني ويلات الظلام.
أخيرًا، بلا أدنى شك أن برنامج “مع اسلام بحيري” يُحقق نجاحًا وتفاعلًا ملحوظًا، فالمُتابع لبعض البرامج الأخرى التي تستهجن الطرح التنويري سيجد أن تلميحات مُضادة للبرنامج أصبحت من الفقرات الأساسية في حلقاتهم، وهذا يعني أن التفاعل مع فكرة التنوير في حد ذاتها قد بلغ ذروته داخل المُجتمع في لحظة نحتاج فيها هذا الطرح حتى لا تطير رقابنا باسم الدين دون أي جريمة، فالجميع في خطر.
للتواصل مع الكاتب عبر تويتر ضغط هنا
اقرأ أيضًا:
لؤي الخطيب : حتى لا نخسر تياترو مصر
لؤي الخطيب: الدبة اللي قتلت صاحبها