نقلا عن الشروق
المصارحة بالحقائق من ضرورات مواجهة الأزمة الاقتصادية التى لا تلخص وحدها الأزمات المصرية وإن كانت أكثرها خطورة.
أسوأ استنتاج ممكن النظر إلى الاتفاق المبدئى مع صندوق النقد الدولى، باعتباره إنجازا تنشد له الأغانى وتخفت بعده المخاوف.
نحن فى أول الأزمة لا آخرها والأيام الصعبة أمامنا لا خلفنا.
القرض ليس حلا ولا شبه حل بقدر ما هو فى أفضل التقديرات طوق إنقاذ من انهيار اقتصادى لاحت أشباحه فى الأسواق.
عندما لا يكون أمام أى مخطط اقتصادى للإفلات من الانهيار المحتمل سوى اللجوء إلى صندوق النقد الدولى، فالمعنى أن السياسات المتبعة أخفقت بصورة كاملة.
أى تصحيح يستدعى الاستماع بكل جدية إلى الخبراء الاقتصاديين المصريين من جميع الاتجاهات.
المعضلة الحقيقية التى تعترض مصر الآن أنها تراوح ذات النقطة التى تقف عندها منذ عقود.
وفق وثائق وشهادات متواترة منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضى فإنه «غير مسموح لمصر أن تنهض أو أن تسقط».
المعنى أن قرض الصندوق مانع من السقوط لكنه ليس دافعا للنهضة.
هكذا قواعد اللعبة دون مسوح تجميل.
بحسب محافظ البنك المركزى «طارق عامر» فإن قرض صندوق النقد الدولى «شهادة ثقة بقدرة الاقتصاد المصرى على جذب الاستثمارات الخارجية وتحقيق التوازن الاقتصادى بدون اضطرابات».
طلب الثقة كنفى الاضطرابات نوع من التمنى لا يستند إلى وضوح كاف.
بحكم طبيعة مهمته فهو يقصد اضطرابات سوق النقد، التى سوف تتراجع بعد ضخ قيمة القرض البالغ (١٢) مليار دولار على ثلاث سنوات، غير أن حديثه عن «سعر مرن» للجنيه المصرى أمام العملات الأجنبية يعنى أن قيمته سوف تنخفض مجددا بنسب كبيرة فى غضون الأسابيع والأيام المقبلة وفق طلب بعثة الصندوق فيما يشبه «التعويم» دون استخدام التعبير.
بين «التعويم» بطلب الصندوق و«الفرض» بقوة الدولة كادت تضيع أية ملامح لسياسة نقدية جادة تأخذ فى اعتبارها حقائق عصرها واحتياجات مجتمعها معا.
كان مثيرا الكلام المنفلت تحت قبة البرلمان عن تشريع يلغى شركات الصرافة ويجيز إعدام أصحابها إذا ثبتت عليهم تهمة المضاربة.
لا يمكن تأسيس أى نظام مصرفى له صلة بحركة الأسواق العالمية دون أن تكون هناك مثل هذه الشركات، التى هى بالتعريف جزء من النظام المصرفى.
الكلام نفسه، والعالم يتابع ويسمع، تحريض مباشر على حجب أية استثمارات أجنبية.
البيئة الجاذبة للاستثمار تتجاوز ما هو اقتصادى إلى ما هو سياسى، وتفلت التصريحات من دواعى تقويضها.
إذا كان ينسب للإجراءات الاقتصادية سعيها لتحسين المركز المصرى فى التنافسية الدولية، فإن ذلك لا يمكن أن يحدث بظل فساد يستشرى فى بنية الدولة ومؤسساتها، كما أكدت تحقيقات القمح، ولمقاومة الفساد أصوله إذا ما أردناه جادا وأولها ضرب مراكزه ومؤسسته التى توحشت حتى صارت أقوى من أى مؤسسة أخرى فى الدولة.
والحاجة إلى رفع كفاءة الأسواق وتخفيض عجز الموازنة والدين الحكومى وزيادة معدلات النمو لا يغنى عن طرح أكثر الأسئلة جوهرية: كيف وصلنا إلى الإخفاق الاقتصادى؟.. ومن يدفع فواتير إصلاحاته؟
لا كلمة عن «الضرائب التصاعدية» المنصوص عليها فى الدستور ولا عن «ضريبة الثروة» لمرة واحدة التى اقترحها رجل الأعمال «سميح ساويرس» بعد «٣٠» يونيو ولم يعد أحد يتحدث عنها.
كالعادة المواطن المصرى البسيط هو من سوف يسدد كل الفواتير من مستويات معيشته، وهو نفسه الذى يطالب بالتبرعات دون أن يحصد بالمقابل ثمن تضحياته.
بكلام آخر فإننا نتجه إلى ارتفاعات جديدة فى أسعار السلع الرئيسية والخدمات فوق طاقة المجتمع المنهك بطبقته الوسطى وفئاته الفقيرة.
وفق القاعدة الرياضية الشهيرة «لكل فعل رد فعل» فإن سيناريو الاضطرابات الاجتماعية لا يمكن استبعاده دون أن يكون بوسع أحد أن يتوقع «متى وأين وكيف؟».
بخشية الاضطرابات تجنبت المصطلحات المستخدمة توصيف الإجراءات بأسمائها الحقيقية، فتعويم الجنيه «سعر مرن» ورفع الدعم «ترشيد» و«طلبات الصندوق» موافقة على «البرنامج الإصلاحى المصرى».
الحقيقة أن الحكومة تبنت ما اسمته «الإجراءات المؤلمة» التى تتضمن رفع أسعار السلع والخدمات وفرض ضرائب جديدة مثل «القيمة المضافة» ونفذتها قبل أى تفاوض مع الصندوق، الذى وجد أمامه برنامجا يوافقه دون حاجة إلى ضغوط إضافية غير أن ذلك لا يعنى أنه لن يتشدد فى مستوى الالتزام والتنفيذ أيا كانت العواقب الاجتماعية فادحة.
لذات خشية الاضطرابات أفرطت التصريحات الحكومية فى الحديث عن شبكة الحماية الاجتماعية لمحدودى الدخل دون أن يكون الكلام مستندا إلى سياسات مقنعة أو متسقة تضع فى اعتبارها التدهور المنتظر فى مستويات معيشة الطبقة الوسطى وتآكل دخولها الفعلية أمام نسب التضخم المرتفعة وتراجع سعر الجنيه المصرى.
الطبقة الوسطى رمانة الميزان فى المجتمع كله، فإذا اختلت أحوالها اختلت أحواله وإذا غضبت تغيرت كل المعادلات.
بيقين فإن الاقتصاد المصرى يحتاج إلى جرعة إنعاش تضخ فى شرايينه حتى لا يحدث هبوط حاد فى دورته الدموية، غير أن الجرعة إذا زادت عن أى حد محتمل فإنها تفضى إلى ذات الهبوط.
الثقة فى قدرة أى اقتصاد منهك على تجاوز أزماته تستدعى أن يكون الرأى العام مقتنعا بإجراءات الإصلاح رغم مرارتها، وأن يرى أمامه عدالة توزيع الأعباء فلا يدفعها وحدهم من لا يقدرون على الوفاء بأبسط احتياجات حياتهم اليومية، وأن تدفع السلطات التنفيذية فواتير التقشف قبل غيرها، وأن تراجع الجدوى الاقتصادية لأية مشروعات كبرى، وأن تكون هناك قبل ذلك كله «دولة قانون» تحاسب كل فساد ودولة حديثة تحمى حرية الرأى وتحتمل كل اجتهاد.
بمعنى آخر فإن تحسين البيئة العامة من ضرورات تجاوز الأزمة وإضفاء الثقة على الاقتصاد المصرى قبل شهادة صندوق النقد الدولى.
الكلام الرسمى عن ضرورة «الاعتماد على أنفسنا وألا ننتظر مساعدات خليجية بالنظر إلى تراجع أسعار النفط» فى محله تماما، غير أن ذلك لا يمنع فتح ملف تلك المساعدات، ما أرقامها وكيف أنفقت، حتى لا تتبدد أية موارد مقبلة فى غير مصارفها الصحيحة.. ثم أن نعرف بعد ذلك ما مفهوم الاعتماد على الذات، فبعض التعبيرات تفقد معناها من سياقها.
إذا لم يكن هناك مسار سياسى يصحح بجدية ومناخ إعلامى يناقش بحرية فإن أى مسار اقتصادى يصعب أن يتجاوز أزمته بسلام.
نرشح لك
[ads1]