نقلًا عن جريدة الحياة
بتوصلها إلى اتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي على قرض قيمته 12 بليون دولار قبل أيام، تقطع مصر – مضطرة بدافع من أزمتها المالية – خطوات غير مسبوقة باتجاه تفكيك العقد الاجتماعي الموروث من دولة 23 (يوليو) 1952.
ورغم أن النظام اتخذ في العامين الماضيين خطوات مثل تقليص دعم الوقود ورفع أسعار بعض الخدمات لتخفيف التزامات الدولة، ثم إصدار قانون الخدمة المدنية الذي يمكن أن يؤدي الى تسريح بعض الموظفين، إلا أنه أرجأ تطبيق مراحل لاحقة من برنامج تقليص الدعم، ربما تخوفاً من ردود الفعل.
من هنا تأتي أهمية الاتفاق الجديد بين مصر وصندوق النقد الذي يضع برنامج التقشف الحكومي في إطار ملزم، باعتباره فرصة أخيرة للإفلات من الإفلاس، ما سيفضي – في حال تنفيذه كاملاً – إلى إنهاء معادلة شرعية «دولة يوليو» القائمة على توفير الدولة الوظائف ودعم السلع والخدمات الأساسية.
في بيان إعلان الاتفاق، يؤكد الصندوق أن «الحماية الاجتماعية حجر زاوية في برنامج الإصلاح الحكومي»، ويتحدث عن خطط لخلق وظائف. لكن في التفاصيل إجراءات تقشفية كثيرة تقوّض هذا الوعد الفضفاض، وتطرح أسئلة عن مصدر الموارد المطلوبة للحماية الاجتماعية وخلق الوظائف، خصوصاً مع تراجع المساعدات الخليجية التي كانت ضعف قيمة القرض وذهب معظمها لتقليل عجز الموازنة.
كما أن التعويل على أن القرض «شهادة لمصر» ستشجع الاستثمار الأجنبي، يبقى موضع شك في ظل القيود المتزايدة على تحويلات العملة الأجنبية وتوفيرها في السوق المحلية وأسعارها المتقلبة بعنف والمخاوف من ردود الفعل على الإجراءات الحكومية غير المسبوقة.
صحيح أن تغيرات كثيرة دخلت على تفاصيل عقد «دولة يوليو» منذ منتصف الستينات، سواء بفعل أزمات مالية أو سياسات اقتصادية مثل «الانفتاح» في عهد أنور السادات، وإعادة الهيكلة التي رافقت قرض الصندوق بعد حرب الخليج الثانية، ثم المحاولات التي أجهضتها الثورة لتبني أجندة نيوليبرالية في سنوات حسني مبارك الأخيرة. إلا أن جوهر هذا العقد ظل كما هو.
لم يحظ مصير معادلة «دولة يوليو» بالحيز اللائق من النقاش العام في شأن القرض، وقبله برنامج الحكومة. تلقف المؤيدون الاتفاق بتأييد شبه كامل، وإن تحفظوا عن إجراء هنا أو هناك. وعارضه بعض قوى اليسار، انطلاقاً من موقف مبدئي يرفض التعامل مع صندوق النقد الدولي. وانتهز «الإخوان» الفرصة للهجوم على النظام، رغم أن الجماعة كانت تفاوض الصندوق على قرض بشروط مشابهة في عهد حكمها القصير.
بيد أن أحداً في الحكم أو المعارضة لم يتوقف عند تأثير الإجراءات المرتقبة على مستقبل العقد الاجتماعي، أو يطرح تصوره لأساس شرعية بديلة يفترض أن تملأ فراغ معادلة «دولة يوليو» التي تجاوزتها حسابات الإمكانات والديموغرافيا.
هذه المسألة تتجاوز تقويم نجاعة إجراءات البرنامج الحكومي المقترح، على أهميته، إلى نقاش الخيارات والأسباب والانحيازات التي أدت إلى الأزمة الحالية وأولويات النموذج الاقتصادي الذي ينتظر أن تتبناه مصر، وصولاً إلى صياغة معادلة جديدة تحقق التوازن الصعب بين ضعف موارد الدولة، والعدالة الاجتماعية التي كانت عنوان الحراك الشعبي في 2011.
قرارات تأسيسية من هذا النوع تحتاج نقاشاً واسعاً يشارك فيه المجتمع الذي يحمله البرنامج الحكومي العبء الأكبر لإجراءات التقشف، عبر تقليص الدعم الاجتماعي وفرض ضرائب جديدة مثل ضريبة القيمة المضافة. وإذا كانت القاعدة تقول أن «لا ضرائب بلا تمثيل»، فإن حواراً كهذا هو ضرورة لضمان الاستقرار، خصوصاً أن قاعدة عريضة من مؤيدي النظام في الطبقة الوسطى تغاضت عن أولوية الحريات، أملاً بالحفاظ على مستوى معيشتها ومكتسباتها «اليوليوية» المتآكلة.