نقلا عن السفير
وجلس حلمي النمنم على مقعد الوزير، في منصب سبقه كثيرون إليه، بعضهم حقق إنجازا، وبعضهم اكتفى بميزات المنصب.
أتى النمنم من الصحافة الثقافية، بعد أن ظلّ محررا ثقافيا حتى يومه الأخير قبل الوزارة، متنقلا بين مناصب مختلفة إلى جانب عمله الصحافي، حيث لم يحقق انجازا لامعا في أي من مناصبه الثقافية. كانت البداية بتوليه منصب مدير النشر في «المجلس الأعلى للثقافة»، ورئيسا لتحرير مجلة «المحيط الثقافي» التي توقفت على يديه بسبب سوء تحريرها، ما انعكس على التوزيع. لم يتوقف عن التصعيد في مناصب الوزارة المختلفة، وكان الملاحظ أنه «لم يقدم في أي مؤسسة تولّى رئاستها شيئا يذكر، بل على العكس فإن هيئتَي «دار الكتب والوثائق القومية» و «العامة للكتاب»، شهدتا حالة موت إداري واضح أثناء توليه إدارتهما» حسب بيان أصدره عدد من المثقفين عقب توليه الوزارة!
بكى النمنم في أحد البرامج التلفزيونية قبل أيام من توليه الوزارة. بكى بسبب انتقاد البعض للمشروعات التي تنفذها الدولة، وكأن النقد ليس حقا من حقوق المواطنين. بدا المشهد عبثيا، ولكن البكاء كان أحد مؤهلات صعوده إلى المنصب. جاء النمنم بلا انجاز حقيقي، ويبدو أن ذلك أيضا من المؤهلات المطلوبة للمنصب: أن يأتي شخص باهت بلا حضور، مهمته الأساسية، تمويت العمل الثقافي، وإسكات كلّ الأصوات التي تنادي بشيء مختلف، إسكات بالقانون والبيروقراطية. تماما كما استفاد النمنم من الفترة التي قضاها في العمل مع فاروق حسني بتنفيذ سياسة «الكرنفالات الثقافية» التي هي مجرد صخب وضجيج بلا طحن.
«الأفندية الأرذال»
يحلو لكثيرين مقارنة أداء النمنم بأداء وزير ثقافة سابق فى السبعينيات، يوسف السباعي الذي اشتهر بلقب الجنرال. عندما وصل الرئيس أنور السادات إلى السلطة، كان يرى أن المثقفين مجرد مجموعة من «الأفندية الأرذال»، لتبدأ في ذلك الوقت مرحلة «تغريبة المثقفين» الذين تنقلّوا بين البلدان العربية وأوروبا لسنوات طويلة أقدم فيها السادات على توقيع معاهدة كامب ديفيد، ثم تحالف مع جماعات الإسلام السياسي. في تلك الفترة كان «جنرال الثقافة» المصرية وزير ثقافة السادات يوسف السباعي قد بدأ مجموعة من الاجراءات لتفريغ الثقافة من أي مضمون حقيقي، وأن يكون لها أي دور يمكن أن تلعبه، وقد بدأ في تلك الفترة بإغلاق بعض المجلات الثقافية مثل مجلات الكاتب والطليعة وتولية مجموعة من مثقفي اليمين تحرير الباقي.
ولكن ثمة فارقا كبيرا جدا بين «الجنرالَين»، فارق بين الأصل والصورة، بين جنرال حقيقي وآخر مزيف. باختصار هو الفرق بين «عتريس» في فيلم «شيء من الخوف» وشبيه عتريس الخارج من عباءته والذي يصرخ كل يوم «أنا مليون عتريس في بعض… انتو ما بتخافوش ليه»!
ماذا فعل حلمي النمنم خلال الشهور التي تولاها وزيرا للثقافة؟ لا شيء تقريبا!
ما المتوقع منه أن يفعل؟ لا شيء أيضا. لأن «الفعل» نفسه يهدد وجوده، الاعلان عن رأي مختلف معناه أنه سيكون خارج السلطة والمنصب الذي قَدَّم الكثير من أجل أن يحتله.
من المفارقات الصارخة أن «النمنم» هو صاحب كتب عدة تتناول قضايا حرية الرأي والتعبير، بداية من «الحسبة وحرية التعبير»، مرورا بكتابه «وليمة الإرهاب الديني». لكن هذه الكتب، كانت صدرت أيام عمله كصحافي، لا يقرأها الآن، ربما ينتفض عندما يذكره بها أحد. الآن هو لا يترك مناسبة إلا ويخصصها للهجوم على الروائي المصري السجين أحمد ناجي.
فى حوار له مع جريدة «الأهرام» قال النمنم: «لا أحد يختلف على الحرية كمفهوم وممارسة، وهذا ما أدافع عنه طول حياتي، ولكن ما يجب أن ننتبه إليه تماما هو حدود هذه الحرية» أي أن النمنم يستخدم الأسلوب نفسه الذي ينتقده لدى الآخرين. ما الذي اختلف؟ هل نحن أمام شخصين؟ نمنم ما قبل الوزارة ونمنم ما بعدها؟!
مبايعة الموت
لننعش ذاكرة النمنم، قبل سنوات ليست بعيدة. بداية الألفية. عندما انتفض محمد عباس الكاتب بجريدة الشعب دفاعا عن تصوراته لمفهومَي الأخلاق والدين ضد رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر. صرخ: من يبايعني على الموت؟ وانضم إليه فهمي هويدي، وعادل حسين وأحمد عمر هاشم. ومصطفى بكري (طبعا). وقتها كتب (الصحافي) حلمي النمنم دفاعا عن الرواية وكاتبها: «إننا لم نعرف في تاريخ الأدب كله أن رواية هزت عقيدة سياسية أو اجتماعية، فما بالنا بالعقيدة الدينية. لقد صدرت عشرات الروايات لضرب العقيدة السياسية للاتحاد السوفياتي، ومع ذلك فحين انهار الاتحاد السوفياتي كان لأسباب داخلية عميقة، ولأن عناصر الانهيار كانت داخل تلك العقيدة السياسية وليس بسبب الروايات التي صدرت لتندد بها». انتهى كلام النمنم الذي دبج بعدها كتابا كاملا دفاعا عن حرية التعبير. والآن لم تتبدل المواقع، بل ترك النمنم موقعه إلى الجبهة الأخرى مهاجما أحمد ناجي في ظاهرة تحتاج إلى محلل نفسي!
يصف النمنم رواية أحمد ناجي بالانحراف ويستخدم الخطاب الشعبوي للتدليل على ذلك. «هل تسمح لأمك أو بنتك بقراءة النص». وربما هذا الهجوم هو نوع من السلاح الفاسد الذي يستخدمه الوزير للبقاء في منصبه، وربما يبقى وزيرا. ولكن بالتأكيد لن يستمر في منصبه طول العمر!
المفارقة أن ناجي هو اول روائي سجين. لم يدخل السجن أي روائي في عهد عبد الناصر والسادات بسبب عمل فني، وإنما كان سجن الأدباء بسبب نشاط سياسي مباشر.
أما قضية تيران وصنافير، فيضع النمنم يده في يد مصطفى بكري الذي وقف من قبل موقفا حادا ضد رواية «وليمة لأعشاب البحر» ليعلن متطوعا ــ وليس مطلوبا منه ذلك ــ أن الجزيرتَين سعوديَّتان، بل سيخصص مطابع وزارة الثقافة لإصدار طبعات شعبية لكتب تؤكد ذلك!
طبعات شعبية في الوقت الذي جهز النمنم لائحة نشر جديدة تفرض رقابة صريحة على كل اصدارات هيئة الكتاب. في اللائحة، لا بدّ أن يوقع مدير تحرير السلاسل والمجلات على الصفحات ليتحمل هو المسؤولية القانونية. ربما لم تشهد أيام يوسف السباعي ذلك. المشهد الثقافي الرسمي في عهد النمنم لا يختلف كثيرا عن المشهد في عهد جماعة الإخوان. كلاهما مرحلة عابرة، جملة اعتراضية في تاريخ مصر!
نرشح لك
[ads1]