حين أذكر أمامك اسم مصر وأسكت.. تتخيل بمنتهى التلقائية والثقة أن المقصود بمصر هو الدولة أو الرئيس أو الحكومة.. وليس هذا صحيحًا الآن على الأقل حيث لا أقصد بمصر هنا إلا كل أهلها.. أنت وهى وهو وأنا.. الملايين الذين تختلف ملامحهم وأسماؤهم ووظائفهم وطبقاتهم الاقتصادية والاجتماعية ولا يتشابهون فى النهاية إلا فى أنهم كلهم مصريون.. فالشارع هو صورتنا الحقيقية..
وفى الشارع تبقى حقائق وشواهد سلوكنا وأفكارنا وعاداتنا ونظامنا وتناقضاتنا وأسباب تخلفنا وهزائمنا المتتالية مهما تبجحنا بالحديث عن قوتنا وانتصارنا أو عراقتنا وحضارتنا وتاريخنا العظيم الذى كان.. وأظن أننا لم نحاول أىَّ مرة من قبل رؤية أنفسنا فى الشارع وكأننا نشاهد فيلمًا سينمائيًا على شاشة ضخمة أمامنا حتى نجلس كلنا معًا بعد انتهاء الفيلم نحكى عما شاهدناه وعن انطباعاتنا ومخاوفنا وصدمتنا وانزعاجنا.. فنحن لا نتخيل دائمًا أن الحقيقة هى دائمًا ظاهرة وواضحة هناك فى الشارع.. نحن طوال الوقت مجتمع قصير النظر يتخيّل أن السياسة هى مكتب الرئيس واجتماعاته ومكتب رئيس الحكومة ووزراؤه والمحافظات ومحافظوها.. نتخيل الاقتصاد هو البنك المركزى ومكاتب الصرافة والزراعى هى وزارتها التى فى الدقى وصوامع القمح التى فى النيابة.. نتخيّل الداخلية هى تأمين مباريات الكرة وأقسام الشرطة وجمعيات ومراكز حقوق الإنسان.. نرى ونتخيل كل مؤسساتنا وهيئاتنا وأشيائنا على غير حقيقتها لأننا لا نراها من الشارع.. بفكر الشارع ومنطقه وأحكامه وقواعده.
نرشح لك – ياسر أيوب يكتب: إسرائيل التى هزمتنا مرتين
وإذا كانت دول أوروبا كلها تعرف أن الشارع هو صورتها الحقيقية التى يجب أن تبقى دائمًا حاضرة وماثلة أمام الجميع.. الذين يعيشون فى كل بلد والذين يحكمونها والذين يزورونها أيضًا.. وإذا كان جوليانى حين فاز بمنصب عمدة نيويورك قبل سنين طويلة وأراد تغيير صورة المدينة الأمريكية الجميلة من مدينة للقبح والخوف والجريمة إلى مدينة آمنة وراقية وقوية.. بدأ بشوارع نيويورك لأنه اقتنع بأن الحكاية كلها فى الشارع.. بدايتها ونهايتها ونجاحها أو فشلها فى الشارع وليس فى أى مكتب أو حتى شاشة تلفزيون.. إلا أننا فى مصر بعد لم نقتنع بذلك ولم نرَ للشارع أى ضرورة قبل أن نبدأ أى حديث عن مصر وحاضرها وواقعها وأزماتها ومعاناتها وأحلامها.. ولهذا رأيت أنه قد يكون مناسبًا.. وقد يكون ضروريًا أيضًا.. أن نشاهد كلنا معًا فيلم مصر فى الشارع.. وكل ما يمكن أن نخرج به من آراء وأفكار وأحكام وملاحظات بعد مشاهدة هذا الفيلم.
أولى تلك الملاحظات هى الفوضى.. نحن شعب فوضوى.. شعب يعشق الفوضى حتى إن لم يعلن ذلك ويرفض ويكره ويحتقر أى نظام مهما ادعى غير ذلك.. وأرجوك اذهب وقف فى أى شارع سواء كان الحى راقيًا أو شعبيًا أو عشوائيًا.. فى القاهرة القديمة والجديدة وأى مدينة أخرى.. قف وتأمل كل هذا الذى يجرى أمامك.. لن تجد أى نظام.. ستجد الذى يسير عكس الاتجاه والذى يسير فى الاتجاه الصحيح لكن بطريقة عشوائية والذى يقف بسيارته دون أى مكان للانتظار لأنه يريد شراء شىء على وجه السرعة ولا يرى أن ترك سيارته دقائق قليلة سيؤذى أى أحد أو يتسبب فى أى مشكلة.. ستجد الميكروباص الذى يتوقف فجأة لأنه لمح راكبًا من بعيد وسائق سيارة الأجرة الذى يريد السير ببطء فى انتظار أول زبون وفى نفس الوقت ترفض كرامته أن يسمح لأى سيارة أخرى بتجاوزه.. ستجد كل شخص منح نفسه الأولوية فى المرور قبل غيره ويظن طوال الوقت أو طوال الطريق أن الآخرين هم الذين على خطأ وهم الذين لا يعرفون ولا يفهمون.. وهناك دائمًا إشارة مرور أود التوقف أمامها بكثير من التأمل هى تقاطع شارع عبدالخالق ثروت مع شارع طلعت حرب.. فالسيارات بدأت أو لا تزال تحاول احترام إشارات المرور بعد أن باتت أوتوماتيكية مزودة بكاميرات تصوير للسيارات المخالفة.. لكن المشاة لا يزالون يرفضون هذا الاختراع الجديد.. ويرون أن الشارع من حقهم قبل غيرهم.. فضلاً عن قانون مصرى دائم ينص على أنه فى حالة الخلاف بين قائد سيارة وأحد المشاة فقائد السيارة هو المخطئ بالتأكيد.. تمامًا مثل قانون آخر غير مكتوب ينص على الأغنى هو بالضرورة الأقل إنسانية والأكثر عدوانية من الإنسان أقل منه اقتصاديًا.. وقوانين أخرى كثيرة وصور أخرى كلها تعكس وتؤكد بوضوح قمة الفوضى التى فى شوارعنا نتيجة الفوضى التى فى حياتنا.. وإذا أردنا مواجهة هذه الفوضى فى حياتنا فلابد من مواجهتها فى الشارع أولاً.. وهو الأمر الذى أبدًا لم نحاوله من قبل.. دائمًا نبدأ من آخر مكان بعيدًا عن الشارع فنفشل ونعجز عن إتمام أى محاولة لتبقى الفوضى سائدة ودائمة.
نرشح لك – ياسر أيوب يكتب :المجتمع المصري الذي أبدا لن يتغير
صورة أخرى من الشارع أيضًا يمكن التقاطها من فوق كوبرى أكتوبر الشهير.. نحن بنينا هذا الكوبرى قبل سنين طويلة لمواجهة زحام القاهرة وبالتأكيد كانت خطوة رائعة وضرورية ولا يمكن تصور شوارع القاهرة بدون اكتمال هذا الكوبرى.. والمشكلة الآن هى تحول هذا الكوبرى إلى محنة يومية لكل من يستخدمه.. فالزحام لا ينتهى وزحف السيارات فوقه يحيلها إلى ديناصورات شديدة البطء عاجزة عن الجرى إنما لابد أن تواصل زحفها حتى تصل إلى ما تريده.. والتبرير الطبيعى الجاهز دائمًا هو الزحام وعدد السيارات الذى يزيد عامًا وراء آخر.. وهو سبب حقيقى بالتأكيد.. لكن لا أحد ينتبه إلى الخطأ الفادح فى تصميم هذا الكوبرى عبر مراحله المختلفة.. فأى كوبرى علوى أو نفق تحت الأرض يجب أن يكون اتساعه وعدد حاراته واحدًا منذ بدايته حتى نهايته.. حقيقة بديهية بسيطة يسهل ملاحظتها فى كل كبارى وأنفاق العالم حولنا.. أما كوبرى أكتوبر فقد بنيناه حسب الظروف والفراغات المتوافرة.. يتسع الكوبرى حين تسمح الشوارع أسفله أو المبانى حوله بذلك ويضيق حين لا تسمع.. وبالتالى تتكدس فوقه السيارات وتجد الناس فيها حين يصلون لنقطة الانفراج يتعجبون من الزحام والتوقف الطويل رغم أنه لا حادثة هناك أو إصلاحات كانت تعيق المرور.. ولا يعرف هؤلاء أن المشكلة كانت فى التصميم أصلاً.. تمامًا مثل كوبرى 15 مايو حين يضيق فى بداية الزمالك من ثمانى حارات إلى حارتين فقط فيصبح من الطبيعى أن تضطر أى سيارة للانتظار ساعة أو ساعتين لتعبر هذه النقطة الخانقة.. ثم جئنا نحن ووضعنا بصمتنا الخاصة فقررنا تخصيص حارة من الحارتين الباقيتين للمرور وأحلناها إلى موقف دائم لسيارات الميكروباص.. ونبقى نردد الشكاوى وصرخاتنا من الزحام دون أن نعرف أنها كانت مشكلتنا نحن حين بدأنا هذا المشروع.. وهو درس يمكن تعلمه من الشارع حين نبدأ أى مشروع آخر جديد.. فنبدأ هذا المشروع الجديد وفقًا لما هو متوافر ومتاح وحسب الظروف والأهواء دون أى دراسات حقيقية وعلمية ودون أى تخطيط ثم ندفع كلنا فيما بعد ثمن هذه الفوضى والارتجالية.
صورة أخرى.. فى الشارع أيضًا.. تعكس فوضويتنا وعشوائيتنا.. لافتات الأطباء والمحامين.. إشغالات الطرق.. بلطجة الانتظار وحجز أماكن للسيارات.. تحويل الأرصفة إلى أسواق للبيع والشراء.. القذارة والمهملات الملقاة فى كل مكان مهما تكن مكانته الاقتصادية.. وكلها أفعال يبررها أصحابها ويقبل بها الآخرون سواء من باب الاعتياد أو الإدعاء بأنه لا ضرر منها أو من باب الإشفاق على الآخرين وتفهم أوضاعهم الظالمة.. والنتيجة هى الفوضى الكاملة.. القبح الكامل.. وإذا أراد أحد اليوم الحديث عن تغيير مصر وصورتها وواقعها ولم يبدأ من الشارع.. فتأكدوا أنها مثل كل المحاولات الكثيرة السابقة.. لن تنجح ولن تكتمل.. ويبدو أننا كلنا فى النهاية أصبحنا نريد ذلك ونستمتع به أيضًا.