ع الهوا ….. كلمة يحفظها المذيعون عن ظهر قلب، لها وقع السحر والمغامرة ، يطلقها المخرج فتصل إلى المذيع عبر سماعة الأذن المثبتة بعناية ، فتستنفر أعصابه وخلاياه وتنتفخ أوداوجه ، وينطلق كطائر محلق عبر السموات السبع في رحلة مقدسة متوهما أنه سيمسك الحقيقة بيديه ويصنع الحكمة ، ويشعر أنه امتلك الفضاء كله … والناس الرعية على الأرض واقفين مشدوهين يرفعون رؤوسهم الى أعلى منتظرين بفارغ الصبر أن تنهال عليهم المعرفة والحكمة الصافية.
هذا الهواء … ليس لي، وليس ملكا لأحد، أصبح الهواء التليفزيوني في بلادي هذه الأيام… فاسدا ، سميكا خانقا وثقيلا لا يطاق ، نظرية ملأ الهوا الاعلامية – وهي اختراع مصري أصيل – ، نباهي به الأمم ، أصبحت هي المهيمنة على أداء أغلب القنوات الفضائية بمختلف أشكالها وتوجهاتها ، املأ الهوا بأي مضمون كان، حاصر عقل مشاهدك ، اجعله يقتنع أن ما لا يمر عبر شاشة التليفزيون لا وجود له في الحقيقة … لاتدع عقله يتنفس ولو للحظة واحدة . حتى مع يقين القائمين على هذا الهواء أن ما يقدم رديء لا يجتهدون أن يقدم المضمون الرديء بصورة جيده ، يجب رسم ما هو رديء بشكل جيد على الأقل.
والسؤال الذي يؤرقني دائما ولا أصل لاجابة شافية له: هل ملأ الهوا بهذا الضجيج الذي لاينتهي على ايقاع الطبلخانة المستمرة التي لاتغادرنا في كل العصور هو خوف من فراغ محتمل يمكن أن يملأه الآخرون .. نحن الجمهور ؟ أم هو خوف أن يعمل الناس عقولهم ، فيفرزون وينتقدون ما يتلقونه كل يوم ؟ ، وكأن الهدف هو أن يظل العقل المصري مرتبكا و معطلا ، وأن يظل مشدوها ومروضا بما يقدم اليه في مشهد عبثي .
إذا استعرنا عنوان كتاب الرائع المبدع محمد المخزنجي ( حيوانات أيامنا ) ، الذي يكشف فيه عبر رحلة ممتعة عن الرابط السحري بين عالم الحيوان وطبائعه وعالم الانسان ، سنفاجأ أن هذا الهواء ممتلىء بحيوانات أيامنا الجديده … بغبغانات ملونة تطل علينا عبر الشاشات تردد الكلام والأفكار دون وعي أو فهم، أشكالها جميله وعقولها فارغة – سكريبت واحد وداير على الكل -، ومذيعون أداؤهم يشبه الطاووس ، أصبحت شاشة التليفزيون بالنسبة لهم نوعا من مرآة نرجس ، مكانا لا ستعراض حب الذات ، يخاطبون الناس وكأنهم رسل الحكمة على الأرض، وأن ما يقولونه هو الحقيقة بعينها …أحسدهم على هذا اليقين الذي يتملكهم ولا أعرف من أين أتوا به وما هو مصدره، ومذيعون آخرون كالأفيال يتصارعون على الهواء لتصفية حسابات شخصية لا دخل للمشاهد بها، فيكون الخاسر الوحيد حشائش الأرض !
لماذا نسلم عقولنا هكذا بسهولة وبساطة لبعض الألسنة التي تتوهم أنها تمتلك الهواء وتعرف كل شيء ؟
المذيعون يا سادة… الهواء ليس لهم ، الهواء لنا جميعا ، من حقنا أن نتنفسه بحرية ، لا أحد يملكه وحده .
عزيزي المذيع: لكي تكون كائنا خفيفا – تحتمل خفته – في هذا الهواء عليك أن تتخلى عن دور المعلم الحكيم الناصح العارف بتفاصيل كل شيء في الدنيا ، عليك أن تتواضع كثيرا لمشاهدك – ففي كثير من الأحيان قد يكون مشاهدك أكثر فهما منك –
أما عزيزي المشاهد أقول لك بقلب مطمئن: ( أقفل التلفيزيون قليلا … وفتح مخك).