عبد الله السناوي يكتب: رجل مر من هنا

نقلًا عن “جريدة الشروق”

من شقة صغيرة فى شارع قصر العينى لا تزيد عن (٩٠) مترا تحرك شىء جديد فى تاريخ الصحافة المصرية بالقرب من نهاية السبعينيات أثر بعمق فى مسارها.

فى الحساب الأخير يحكم على أية تجربة صحفية بحجم الدور التى لعبته والأثر الذى خلفته والنجوم التى قدمتها.

لم يتوقع أحد، كما هى العادة فى بدايات مثل تلك التجارب، أن يكتب لمجلة «الموقف العربى» أى نجاح يذكر فأبسط أسبابه تغيب بفداحة.

غير أن هناك شيئا ما يتحدى الحسابات المعتادة للنجاح والفشل، أن تعطى كل وقتك حتى لا يكون النجاح مستحيلا، وأن يكون هناك ما تريد أن تقدمه، ثم أن تفسح المجال لكل موهبة أن تجد طريقها إلى المستقبل.

هكذا كان رئيس تحريرها «عبدالعظيم مناف».

فى الحساب الأخير قدمت تجربته للصحافة المصرية أغلب نجومها الذين لمعوا فى تجارب أخرى وتولوا رئاسات وإدارة تحريرها.

هناك ثلاث أو أربع تجارب صحفية كبيرة على الأقل خرجت من عباءة تلك «الموقف العربى».

كما خرجت من تحت نفس العباءة نجوم أخرى قدر لها أن تلعب أدوارا مؤثرة فى حركة النقد الأدبى والفنى والثقافى والكتابة السياسية والاستراتيجية.

إذا تسنى لك أن تطالع أية أعداد قديمة من «الموقف العربى» فسوف يلفت انتباهك بلا عناء أنها تكاد أن تكون سجلا مبكرا لحركة المواهب فى العقود التالية.

لقد مازجت على نحو فريد بين مفكرين كبار استقرت قيمتهم العالية مثل الدكتور الراحل «حامد ربيع»، أحد ألمع من أنجبت مصر فى العلوم السياسية، وبين كتاب جدد لم يكن أحد قد سمع عنهم من قبل مثل الباحثين الشبان بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية فى الأهرام، كلهم تقريبا بلا استثناء.

حيث لم يكن بوسعهم أن يطلوا على القارئ بكامل رؤيتهم دون قيد وجدوا فرصة التعبير الحر عن أنفسهم.

أية تجربة إنسانية، فى الصحافة والسياسة والحياة، بنت تحديات وقتها.

تبدت جاذبية «الموقف العربى» فى قدرتها على استقطاب المواهب وتقدمها لملء الفراغ الموحش الذى تولد عن إغلاق والمجلات الفكرية والثقافية كـ«الطليعة» و«الكاتب» واحدة إثر أخرى والمصادرة المعتادة لصحيفة «الأهالى» أبرز الصحف الحزبية فى ذلك الوقت.

بخنق المجال العام اتسعت احتمالات الصدام ووصلت السياسات إلى الحائط المسدود باعتقالات سبتمبر (١٩٨١)، وكان «عبدالعظيم مناف» أحد الذين أودعوا السجون ضمن مئات من الشخصيات العامة.

تضمنت قرارات سبتمبر إلغاء ترخيص «الموقف العربى» التى ناهضت خيارات التسوية والتطبيع وأعلنت بلا مواربة عروبتها.

فى تلك اللحظة تأكدت مقولة «دهاء التاريخ»، فلم تكن هناك رخصة لـ«الموقف العربى» كـ«مجلة خاصة» حتى يلغيها قرار جمهورى.

لم يكن هناك وقتها هذا النوع من ملكية الصحف.

بعد حادث «المنصة» بوقت قصير ألغى القضاء الإدارى القرار الجمهورى بسحب ترخيصها، وكان ذلك اعترافا قضائيا بها كـ«أول مجلة خاصة» منذ ثورة يوليو.

فى نفس لحظة سحب الترخيص اكتسبت حقا غير مسبوقا، فحتى يلغى لابد أن يكون موجودا أولا.

بعد عودتها فى مطلع الثمانينيات بدأ صعودها الكبير.

لم تكن التجربة مبرأة من الأخطاء لكن كأى عمل إنسانى مماثل فالعبرة بالحساب الأخير.

فى الحياة تكتسب الأشياء البسيطة قوتها من نفاذها.

وقد كانت لتجربة «الموقف العربى» فرادتها فى استقطاب شخصيات لها وزن تاريخى اعتادت التردد على مقرها المتواضع، تحاور بعمق محرريها فى ملفات التاريخ وسيناريوهات المستقبل.

وسط أكواب الشاى ودفء صاحب المكان جرت حوارات ثرية وعميقة بين جيلين كان لها أوقع الأثر فى اتساع النظرة.

كانت تجربة «فتحى رضوان» أبرز الرموز الوطنية قبل يوليو ماثلة بكامل تفاصيلها قبل وبعد الثورة، كيف وقع فى هوى «مصطفى كامل»، ولماذا كانت الثورة محتمة؟.. وكيف اتفق معها واختلف؟.. وما رأيه فى شخصية الرئيس الجديد «حسنى مبارك» بقدر ما حاوره؟

وكانت تجربة «محمد عبدالسلام الزيات» داعية للتدبر فى تقلبات النظم وافتراق الأصدقاء، فهو من أبرز الذين ساعدوا «السادات» عند الصراع على السلطة فى مايو (١٩٧١)، دخل مقر التليفزيون وحده كوزير للإعلام، وسيطر على الموقف سريعا، غير أن السبل اختلفت والصدام وصل إلى حد إيداعه المعتقل فى سبتمبر (١٩٨١).

وتجلت فى تجربة «ضياء الدين داود» أحد رجال «جمال عبدالناصر»، الذى كان فى أحداث (١٩٧١) على الضفة الأخرى حيث دخل المعتقل على إثرها لسبع سنوات، تراجيديا سياسية وإنسانية.

وقد أكسب الحضور اليومى للكاتب الصحفى الكبير «محمد عودة» المكان معنى خاصا، فهو لا يأت إلا مصحوبا بكبار الصحفيين والمثقفين والأدباء والفنانين المصريين والعرب، ولا يتحرك إلا مصحوبا بشباب موهوب.

فى ذاكرة المكان «الفقيه البصرى»، رفيق الزعيم المغربى التاريخى «المهدى بن بركة» ورئيس الوزراء الأسبق «عبدالرحمن اليوسفى» وقيادات فلسطينية وعربية أخرى لعبت أدوارا فى تاريخ بلدانها واللواء «عبدالعزيز الطودى» المشهور إعلاميا بـ«عزيز الجبالى» بطل عملية «رأفت الهجان» وقامات صحفية مثل «كامل زهيرى» و«صلاح الدين حافظ» و«عبدالله إمام» و«يوسف الشريف» و«محمود المراغى» و«نجاح عمر» و«صالح مرسى» و«فاروق عبدالقادر» و«هبة عنايت» الذين رحلوا عن عالمنا.

كما تبقى فى ذاكرة المكان أسماء «جلال عارف» و«محمد الخولى» و«حسنين كروم» و«عبدالبارى عطوان» و«عبدالقادر شهيب» و«عبدالعظيم المغربى» و«عبدالحليم قنديل» و«محمد حماد» و«جمال فهمى» و«يحيى قلاش» و«حمدين صباحى» و«أحمد عز الدين» و«عماد حسين» و«أكرم القصاص» و«عادل السنهورى» و«طلعت إسماعيل» و«أسامة عفيفى» و«محمد الروبى» و«مصطفى بكرى» وآخرون يعترفون بفضله الذى لا ينكر رغم أى مسارات تالية اتفقوا فيها أو افترقوا عندها.

بارتفاع منسوب التأثير تطلع صاحب «الموقف العربى» إلى إصدار جريدة تحمل التوجهات نفسها باسم «صوت العرب» فى عام (١٩٨٧).

وقد كانت من أوسع الجرائد توزيعا وتأثيرا، ارتبكت فى بداياتها غير أنها تداركت إخفاق أعدادها الأولى بالرهان على جيل جديد من الصحفيين الشبان تولوا إدارة تحريرها بالكامل.

غير أن «صوت العرب» تعرضت عام (١٩٨٩) إلى الإغلاق بقرار من الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» إثر افتتاحية انتقدت السياسات السعودية.

بذات اللحظة أغلقت للأبد «الموقف العربى» ولم يتبق منها غير تاريخها.

لسنوات طويلة تالية أدرك صاحبها أن أدواره انتهت وأن أجيالا جديدة جاء وقتها للعطاء العام، لكنه كان يستشعر بعمق دون أن يفصح أبدا بشىء من الرضا الكامل عن النفس عندما يطل على المشهد العام ويرى الذين أتاح الفرص أمامهم يتقدمون صفوفه.

داهمه المرض اللعين قبل ثلاثة أشهر فحاول ألا يزعج أحدا، حتى لم يعد ممكنا أى إخفاء.

هو رجل مر من هنا، أدى دوره دون صخب، ورحل فى صمت، وترك خلفه إرثا عاما لا ينكر وافتقادا إنسانيا لا يعوض.