نقلًا عن “المصري اليوم”
الأوطان ليست جغرافيا ولا تاريخ.. لا الوطن أرض ولا هو ذكريات.. الوطن إنسان..!
«عمران دقنيش» هز وجدان العالم لأنه إنسان.. فالحرب فى سوريا لا تحرق أرضاً بقدر ما تأكل بشراً.. وفى حسابات العرب الإنسان ليس خانة.. فلا هو واحد صحيح، ولا هو صفر على الشمال..!
صورة الطفل «عمران»، ذى الخمس سنوات، أبكت الغرب أكثر مما حركت ضمير العرب.. فقد اعتدنا الموت والقهر والدماء ثمناً لكراسى الحكم.. لذا بكى العالم وهو يرى صورة طفل «حلب» فى سيارة الإسعاف.. بينما وظفها العرب فى صراعهم الدموى على «لا شىء»..!
«عمران» لم يبك فى مشاهد الفيديو وهو جالس على «كرسى» الإسعاف.. فقط تحسس رأسه المخضب بالدماء.. ربما لم يبك لأنه أخيراً وجد كرسياً آمناً.. فهو محروم من «كرسى» فوق أرضه.. رغم أن «الكرسى» هو كل القصة..!
مولود يا «عمران» فى عام «الكراسى المتصدعة»، حين اهتزت تحت مؤخرات «الحكام العرب».. أطلقنا عليها «ثورات» وسماها الغرب «الربيع العربى».. ولا هى كانت «ثورات» ولا ربيعاً ولا حتى خريفاً.. كان الأمر لا يعدو «تصفيراً» للكراسى.. عدادات الحكم تبدأ من جديد.. ونحن لا نحسب الزمن بالشهور أو السنين.. ربما بالحقب..!
«الكرسى» عند الحكام العرب هو الأرض والعرض والناس والماء والهواء.. يرنو إليه «الشخص» ودوداً متواضعاً وخادماً للشعب.. ثم يتحول على «الكرسى» إلى زعيم ونصف إله.. يهب الحياة لمن يشاء.. ويعفق الأرواح بأصبعه الصغير..!
«عمران» تحسس رأسه و«كرسى» الإسعاف.. فأدرك أنه لايزال حياً.. أفلت الطفل الصغير من مصير 11 ألف طفل سورى، قدمتهم القنابل مهراً لـ«الكرسى».. ولكن شقيقه مات لكى يعيش «الأسد»..!
فى العالم يجلسون على «الكراسى» سنوات معدودات.. ثم يرحلون بأمر من أجلسهم.. فلماذا يقتلون الأبرياء ويقمعون الأحرار؟! وفى قصور العرب لا يرحل الحاكم إلا بالموت أو الدماء.. وما أرخص الأرواح ثمناً لبقائه على «الكرسى»..!
«عمران» لم يمت تحت أنقاض «الكراسى».. ولكن شيئاً ما بداخله مات للأبد.. غير أنه ليس سيئ الحظ.. فمثله «أحمد» الطفل المصرى الذى وضع نفسه فى قارب هجرة غير شرعية وهو يحتضن «روشتة» شقيقه الأصغر.. قال «أحمد» لنفسه والأمواج تتقاذفه «إما أن أعود بالحياة لأخى الأصغر.. أو نموت.. هو بالسرطان.. وأنا بفقدان الأمل»..!
«عمران» و«أحمد» هما «الحلم العربى» الذى لم نعرفه إلا فى الأغانى الاستعراضية تحت «كراسى» الحكام.. هما ينقسمان كالخلايا المتكاثرة من الخليج للمحيط.. مثلهما ملايين فى أرجاء الوطن العربى.. كلهم وقود «الكراسى» وقرابين الحكم الأبدى..!
«عمران» وأشقاؤه العرب لا يحظون بـ«كراسى» فى المدرسة.. كل الأخشاب، الغالى منها والنفيس والرخيص، مخصصة لـ«كرسى الحاكم»..!
ثم إن «الزعماء» العرب لا يحبون العلم والتعليم.. ثمة حكمة يُلقنون بها على باب القصر: «ما أسهل أن تحكم شعباً جاهلاً».. فلماذا نغرس العلم فى عقول «عمران وأشقائه»؟!.. أليس فى الجهل والفقر والمرض أرض خصبة للقمع، والقهر، والتأبيد على «الكراسى»..!
«عمران» لم يذرف دمعة واحدة، ولم يصرخ، ولم ينطق بكلمة شكوى.. ربما لأنه ألف الموت.. رآه أمامه مرات ومرات.. وربما لأنه محظوظ بـ«كرسى» إسعاف.. وربما لأنه مات بالفعل.. فالموت أحياناً ليس بخروج الروح من الجسد.. الموت الحقيقى موت الأمل.. موت الكرامة.. موت الأمان.. وموت الخوف كل لحظة..!
بكى العالم على «جثة» عمران الذى يتنفس.. ولكنه نسى أنه يدير العرب بـ«لعبة الكراسى».. بشار الأسد يروى «كرسيه» بدماء 400 ألف سورى.. وحين تسأله: كيف تفعل ذلك؟!.. يرد: وما رأيك أنت فيما يحدث بالدول العربية التى أطاحت بحكامها؟!
سؤال بسؤال.. وكأن الله عز وجل خلق الأرض العربية وسلمها لحكامها.. وقال لهم: أنتم آلهة هذه الأرض.. وكأن «كراسى» زعمائنا هبطت مقدسة من السماء.. بينما «كراسى» العالم رديئة الصنع.. فلا تلتصق بمؤخرات الحكام..!
«عمران» سيعيش ميتاً.. وقد يحسد شقيقه لأنه مات تحت أنقاض «الكراسى».. شقيقه أصبح رقماً فى الضحايا.. أما هو فسوف يتحول حتماً إلى «لا رقم» فى «قطيع».. شقيقه لن يتمزق مثله وهو يرى وطنه يقتل أهله.. ولن يعيش خانعاً ذليلاً فى بلدان تحكمها «أنصاف آلهة»..!
سيعرف «عمران» حين يكبر أن عام مولده – 2011 – لم يخلع الحكام العرب.. وإنما أجرى تعديلات شكلية على ملامحهم.. سيقولون له فى مدرسة بلا «كراسى»: كانت ثورات..!.. فيضحك ويسخر منهم..!.. سيحاولون إقناعه بأن وطنه تغير..!.. فينظر حوله، ويومئ برأسه: نعم.. تغير.. يا له من مقبرة كبيرة، وسجن فسيح..!
سوف يكبر «عمران وأحمد.. وزياد وليلى وحسن وفهد وخالد ومنى وعلى ووفاء ومهرة وجورج وأنس وجمال وجميلة» على دوى القنابل وسياط القهر والقمع وجدران السجون.. سيموت الأمل بداخلهم ليعيش الزعيم!
سوف يكبرون.. وبداخل كل منهم عقدة «الكرسى».. أحدهم سوف يمتطيه ليقهر الآخرين.. وبعضهم سيمشى ميتاً مع «القطيع».. والآخرون سنراهم حتماً فى صفوف «داعش»..!!