نقلا عن “المصري اليوم”
ما نراه من أزمات يعيشها الوطن أعمق بكثير من أن نكثفها فى قضية قانون بناء الكنائس، إنها ثقافة متغلغلة تُقصى تماماً المختلف، وتعتبره خارجاً عن حدود السواء، وتنسى أننا غنينا قبل نحو 100 عام بتلحين سيد درويش للمسلم والمسيحى للمسجد والكنيسة (أنا المصرى كريم العنصرين).
أنظر إلى تلك المفارقة، بينما يتوافق المجتمع الغربى بنسبة كبيرة، ويدعمه القانون، على أحقية ارتداء البوركينى، ولا يجوز أن يصادر أحد حرية الناس، رغم أن ثقافتنا الشعبية تنتمى إلى مبدأ (كُل اللى يعجبك والبس اللى يعجب الناس)، وهو مفتاح الشخصية الشرقية التى لا تملك الجرأة فى إعلان موقفها، وكأنه نوع من (التقية) الاجتماعية، إلا أن الرهان على الجهر بالرأى هو الأحق بأن نعلنه، أن تأكل وتشرب وتلبس ما يعجبك، من يكسب فى نهاية الأمر هو ثقافة الحرية، نعم سنكتشف أن هناك من يعارض فى أوروبا، وتحديدا فرنسا، السماح بالبوركينى متحديا السلطة القضائية، إلا أن الأمر لن يطول كثيرا.
الحق فى بناء الكنيسة لا يساوى الحق فى ارتداء البوركينى، الأول دينى مقدس، والثانى حتى لو كان يعده البعض طقسا دينيا فإن القسط الوافر منه اجتماعى، بدليل أن عددا من معتنقات المسيحية واليهودية والبوذية ومن لا دين لهن يرتدينه على الشاطئ، أوروبا تسمح به، حتى فرنسا من فرط الضربات التى تلقتها تباعا من الإرهاب أصبحت تنفخ فى الزبادى، ويتعمق لديهم الإحساس بـ(الإسلاموفوبيا)، جزء لا يستهان به من الشعب الفرنسى صار لديه إحساس أن هؤلاء المسلمين يحملون معهم الدمار، (البوركينى) يستدعى مباشرة كارتباط شرطى الإرهاب والتطرف والدماء، الدول الأوروبية لديها القانون سيُفرض على الجميع، هناك عقاب رادع ينتظر من يتجاوز، ولايزال الرهان على الحرية هو طوق النجاة، والذى صار يسمح لضابطة شرطة فى أكثر من دولة أوروبية بأن ترتدى الحجاب.
فى مصر علاقتنا بالحرية لا تتجاوز أن نتشدق بها فى مجالسنا قائلين بصوت جهورى: (الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية)، رغم أننا على أرض الواقع أفسدنا باختلافنا كل قضايانا، الدولة والرئيس وفى كل العهود تختصر الأقباط فى المؤسسة الدينية، وتختصر المؤسسة فى (البابا)، عبدالناصر والسادات ومبارك وصولا للسيسى يتعامل فى القضايا التى تتعلق بالأقباط مع رأس الكنيسة، لرسوخ اعتقاد أن الطاعة فى الديانة المسيحية واجبة، وهكذا فى الانتخابات يُنظر إليهم كقوة تصويتية مرجحة لمرشح ما، لأنها بنسبة كبيرة تتجنب التفتيت، مثلما حدث فى انتخابات الرئاسة عندما منحوا القسط الوافر من أصواتهم للفريق أحمد شفيق، ثم بعدها للسيسى، إلا أن هذا الأمر لا يمكن الركون إليه دائما، تابعنا مثلا رفض الكنيسة قانون بناء الكنائس، وكان الأقباط يقفون خلف البابا، الآن البابا وافق وجزء من الشعب القبطى لم يلتزم بالطاعة، الأحداث المتلاحقة التى تعرض لها الأقباط من ظلم واضح وفادح وفاضح ضاقت به الصدور، وصار أى موقف يواجه قبطيا يصبح التفسير الوحيد المقبول هو الطائفية، مثلا اللاعب الصغير مينا لديه يقين أن ديانته هى السبب فى استبعاده من فريق الناشئين، ربما كان ذلك صحيحا، إلا أن الوجه الآخر أنه ربما تم استبعاده لأسباب عملية ليس لها علاقة بديانته، هناك دائما ثقافة مضادة لثقافة عدم التسامح وهى الإحساس الدائم بالاضطهاد.
هناك أشياء بالنسبة لى لا أجد لها تفسيرا منطقيا، مثل عدم بزوغ نجومية مطرب قبطى ولا ملحن قبطى فى قامة سيد درويش وعبدالوهاب والسنباطى والموجى والطويل وبليغ، ولم نر (جان) مسيحيا، فتى أول للشاشة فى زمن عماد وفريد وشكرى وكمال ورشدى وأحمد زكى، وصولا إلى أحمد السقا ومحمد رمضان، حتى المسيحى الوحيد عمر الشريف حقق نجوميته بعد أن أشهر إسلامه لزواجه من فاتن، ندرة لاعبى الكرة المسيحيين من الممكن أن تُدخلها فى نفس السياق أيضا، فلا يوجد بالضرورة استبعاد طائفى، على الجانب الآخر، قسط وافر من نجوم الكوميديا أقباط، وعدد من أهم مخرجى السينما المصرية أيضا أقباط، التفسير الطائفى ليس دائما هو الصحيح، ولكن فى نفس الوقت لا يمكن إغفاله فى كل معادلة.
علينا أن نواجه تلك الثقافة التى ترى أن بيت الله هو فقط المسجد، وأن البيوت الأخرى ليست لله، حتى الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب، فى اجتماعه مع عدد من الشابات بينهن قبطيات ارتدين الحجاب، أفهم أن شيخنا الجليل يطلب الاحتشام لمن يجلسن فى حضرته، ولكن لماذا الحجاب؟ ثم إنه سبق أن أجرى أكثر من حوار مع مذيعات غير محجبات.
نحن نتحدث كثيرا عن إلغاء خانة الديانة فى البطاقة رغم أن المشكلة (فى الراس وليس الكراس)، طالما يشغلك أن تعرف أولا ديانة الآخر فلن يعوقك عدم توفرها فى البطاقة عن اكتشافها، ثم إذا كانت أسماء مثل أسامة وخالد وتامر يتوافق عليها المسلمون والأقباط، فما الذى تفعله مع جورج ومرقص وسمعان؟ ستصبح أسماؤهم كأنها خانة ديانة معلنة، تعودنا أن نخشى من الدخول فى العمق، حتى فى أبسط الأمور، فى أوروبا يعرفون بالضبط عدد المسلمين فى كل بلد، فى مصر أهم لغز تتكتم عليه الدولة هو عدد الأقباط، النسبة تتراوح بين 20% و7% من السكان، بالطبع هناك قبطى يرى أنها تتجاوز نسبة العشرين، وهناك مسلم يهبط بها دون السابعة، والدولة تخشى أن تجرى الإحصاء لأنها ستفتح الباب لحريق لن تتمكن من إطفاء نيرانه.
علينا أن نُفعل ثقافة تُقر بأنه حتى لو كان بيننا 1% لديهم دين غير الإسلام، فمن حقهم أن يمارسوا شعائرهم وطقوسهم بحرية مطلقة، سينجح الغرب فى حسم مشكلة البوركينى لصالح الحرية، وسنفشل فى حل مشكلة قانون بناء الكنائس لأننا نكره الحرية، ولا أستبعد أن نجرى قريبا تعديلا على أغنية سيد درويش (أنا المصرى كريم العنصرين) لتصبح (أنا المصرى كريم المسجدين)!!.