احدي الحانات ، باب يؤدي إلي طُرقة ضيقة في نهايتها باب الجحيم ، أو قُل باب تلك الحانة ، تجلس علي البار “بنت دين الحُب” فتاة تُشبه عارضات الأزياء إلي حدٍ كبير ، لامعة ومتأنقة ومتألقة ، ملامحها جميلة تُشبه سكون ما قبل العاصفة ، صاخبة ومتمردة ومعجبة بشعرها الكيرلي الذي يشبه الغابات الإستوائية ، هي نفسها غابة ، قناة للأفلام الوثائقية حتى الموسيقي المصاحبة لها مع الدُخان الصاعد لجو السماء يشبهان صراع الأفكار مثل الأسود في رأس تلك الغابة .
تحتسي كأساً من الكلمات التي كتبها أباها “دين الحُب” ، شربت حتى ثملت ، أصبحت تتهاوي علي غرار بطلات الأفلام ، أثارت تلك الحالة نشوة وجنون الحاضرين ، لكن لا أحد يجرؤ أن يقترب من بنت دين الحُب إلا بقصيدة في حبها وحب أباها ، لقد اعتادت كل ليلة أن تشرب وتثمل من القصائد حتى تنطرح أرضاً ويحملوها بلا حراك لبيتها .
كان هُناك شاب دائم النظر إليها يُحبها أو معجبُ بها لكنّه لا يعرف هذا الدين “دين أباها” ولا يعرف هذا النوع من الحُب .
كان شاباً يافعاً ، مُحباً للشعر ، قارئاً له ، لكنّها لم ترهُ مُطلقاً حتى ولو اقترب بشدة من غابة الشعر الكثيف وفروعه الشائكة الحادة ، لقد كان مُكتفياً دائماً بالصمت ، يعلم أن غرامه هو الغرام المُستحيل ، لم يكن يعلم سبباً لهذا الحُب أو قُل إن شئت هذا التعلُّق كان يضرب كفاً بكف ، كيف يُحب أو يتعلق أو حتى يُفكر في تلك الفتاة المكتوية بالقصائد ، الغارقة في بحور النرجسية ، لكنّه ظل علي حاله ، مُراقباً في صمت
في تلك الليلة كانت تنتظر أحد الشُعراء المعروفين برسم كلمات الحُب كما تُحب مثل أباها ، كانت تنتظر تلك النشوة والخمر المتجدد الذي سيطرحها أرضاً من جديد .
بالفعل جاء الشاعر وبرفقته مجموعة من الفتيات ، منها من تعلقت بيده وأُخري تدلت من جيبه وأُخريات سقطن سهواً من حساب الفيسبوك علي الأرض حينما اهتز الهاتف معلناً قدوم مكالمة جديدة…
دخل بوجه لامع ولحية كثة وشارب يتدلي علي فمه ، يرتدي معطفه الأنيق وسلسلته الذهبية ، يزيح شعره الناعم من أمام عينيه كما يزيل المسرح عن وجه الستار ، صعد إلي مقدمة الحانة ، أمسك بالمايك ، وبجانبه شاباً يحمل الجيتار .
بدأ يتلو أشعاره بصُحبة الجيتار غارقاً في ولع الفتيات ، مُرققاً صوته كالعصفور المنتحب المبلل بالمطر ، مغمضاً عينيه منتحلاً صفة شرق آسيوي ، يحاصره تصفيق جنوني ، تجلس هناك بنت دين الحب لم تزل جالسة تُحرك كأسها ذات اليمين وذات الشمال دون جدوى ، لقد كان الكأس فارغاً لكنّها أبت أن تملؤه من شاعر لا يذوب عشقاً وولهاً بها وحدها ، فظلت في مكانها رغم مزاجها الذي بدأ يتعكر وبدأت تتوتر ، لاحظها الشاب الواقع في غرامها ، لكنّه في زمانه وهي في زمانها لازالت لا تستطيع أن تراه ، اقترب منها وأشفق عليها ، ذرف دمعاً رقيقاً طاهراً من عينيه لكنّه لم يكن كافياً أن ينجيها أو يجعلها تراه ، عاد إلي مقعده ومنضدته حزيناً شارداً ، لكنه تفاجئ بشاب يجلس بجوار مقعده يحتسي مشروب الكركديه واثق وهادئ ورزين
عرفه بنفسه …….
-وأنت عرفت منين إني بحب الشعر مش البوح والهيح
-بيبان في العين والبصة ، كمان كان باين عليك وأنت باصصلها ، بتحبها ؟!
-مش عا………..
يقاطعه : لا لا لا ، دا مش حُب ، دي شفقة إنسان سوي علي واحد مريض غرقان لشوشته ، هي حلوة وشعرها متمرد ورافض ينام حتي علي أكتافها ، عارف …الإعجاب ديماً للجانب الآخر من النهر ، للعكس والبعيد دي طبيعة البشر الغير مفهومة ، بس أنت الرواية دي مش بتاعتك ، فجة عليك أوي وفاقعة ، وأنت كلاسيكي أكتر من روتانا كلاسيك نفسها ، أنت شايفها في فنجان عبد الحليم بس هي في الحقيقة رقاصة في مهرجان محدش مستوعب منه كلمة !
قبل أن يرد كان شاعر الحب قد أنهي قصائده عن الفتاة التي تشبه القهوة ومج النسكافيه وكرسي السفرة ورجل الكنبة ……
فقوبل بوابل من التصفيق الحاد ، حتي أن بعض الفتيات صفقن علي وجوههن من فرط الإعجاب ، ذهب الشاعر إلي مقعده الوثير مزهوّاً بنفسه وفي خُيلاء ، وظلت بنت دين الحُب بكأسها الفارغ تُراقب الأجواء حتى صعدت أحد فرق المهرجانات لتؤدي مهرجان “كُرسي في الكلوب” وصعدت بنت دين الحُب لتتراقص وتتمايل ، وتُخرج مشاعرها الحزينة الدفينة علي نغمات المهرجان .
وسط حالة النشوة والرقص والفتيات الصاعدة والشباب الهابط في حالة من الرقص العشوائي المتفجر كالبركان ، كان لا يزال الإثنان
الدائر بينهما الحديث حول فتاة الحب في حالة من الضحك والصخب حول بركان الرقص والهذيان …….
-عارف أنا هفرجك دلوقتي الكرسي اللي في الكلوب الحقيقي ، هفرجك شاعر الحب وبنت دين الحب ……..تركه مسرعاً ، ذهب إلي الشاب النحيل شبيه أعواد القمح التي يلفحها الهواء ، والذي يعمل علي الدي جي
همس في أُذنه ومنحه سيجارة وأعطاه سي دي ليقوم بتشغيله
بدأ التشغيل فخرج صوت فؤاد حدّاد : خلي بالك معايا متسوقش الهبل
هنا بدأ شاعر الحُب يتضاءل حجمه ، كانت الأسطوانة مليئة بأشعار حداد وجاهين والأبنودي…..ذهبت بنت دين الحب إلي جوار مكبرات الصوت تسمع تلك الكلمات الغريبة ، كان دين الحب والدها يجلس بالداخل وما أن سمع تلك الأشعار حتي استشعر الحرج والخوف علي ابنته ، لكنه خرج متأخراً بعد أن ملأت ابنته كأسها وتجرعته بسرعة كبيرة وما إن تجرعته حتي سقطت علي الأرض جُثة هامدة !
وظل شاعر الحب يتضاءل حتي وصل لحجم عقلة الإصبع وما لبث أن أختفي وظل صوت فؤاد حداد يردد بقوة
خلي بالك معايا متسوقش الهبل
بهلوان مش بهلوان ………..