يعتبر جمال حمدان ظاهرة فكرية فريدة فى تاريخ الفكر المصرى والعربى فى النصف الثانى من القرن العشرين، إن كم الكتابات التى ظهرت عنه بعد وفاته يفوق بأضعاف الكتابات القليلة التى ظهرت عنه وعن أعماله فى حياته، حتى إنه أصبح من المألوف فى أى حديث تليفزيوني، أو مقالة صحفية أن يُذكر حمدان وكتابه المهم «شخصية مصر»، حتى يفخر المتحدث أو الكاتب أنه «مثقف» وأنه «حمدانى»، حتى لو لم يقرأ «شخصية مصر» سواء فى طبعته الموجزة أو الكاملة. فمن هو حمدان؟
وُلِّد جمال محمود صالح حمدان فى ٤ فبراير ١٩٢٨، فى قريةٍ صغيرة من قرى محافظة القليوبية المجاورة لمدينة القاهرة، ويذكر البعض أن أصوله ترجع إلى قبيلة بنى حمدان الغربية الشهيرة.
وبصرف النظر عن هذا النسب الذى يصعب التأكد منه، فإننا نرى أن أصول حمدان الاجتماعية يمكن ردها إلى ظاهرة أبناء المهاجرين من الريف إلى العاصمة بحثًا عن فرصة أفضل للتعليم وللحراك الاجتماعي، هذه الظاهرة التى لعبت دورًا مهمًا فى تاريخ مصر الاجتماعى والسياسي، وازداد تألقها بعد الحرب العالمية الثانية. وكعادة الكثيرين من أبناء المهاجرين جاء حمدان إلى حى شبرا فى شمال القاهرة، هذا الحى العجيب، الذى أصبح بحق حى المهاجرين من ريف مصر إلى المدينة، بعدما كان حى المهاجرين من أبناء البحر المتوسط إلى القاهرة. أصبح حى شبرا فى الحقيقة هو حى الطبقة الوسطى الصغيرة الجديدة منذ بدايات الحرب العالمية الثانية فى عام ١٩٣٩. ولا ريب فى ذلك، فهى الرئة الجديدة التى توسعت بها القاهرة آنذاك، حيث أسعار المساكن فى متناول هذه الطبقة. وسيخرج من هذا الحى العديد من رموز الفكر والسياسة فى مصر، الذين سيلمع اسمهم فيما بعد، هذا الجيل الذى يُسمى بحق جيل الستينيات.
التحق حمدان بمدرسة التوفيقية الثانوية، أشهر المدارس فى حى شبرا، هذه المدرسة التى استمدت اسمها من اسم الخديو توفيق حاكم مصر فى الفترة من ١٨٧٩ إلى ١٨٩٢ م. وكانت هذه المدرسة فى الأصل قصرًا من قصور الأسرة الملكية، تم التبرع به ليصبح مدرسة حكومية، مثل الكثير من المدارس فى حى شبرا الذى كان حى القصور الريفية والمتنزهات الملكية فى القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، قبل أن يصبح حى الطبقة الوسطى الصغيرة.
حصل حمدان على الشهادة الثانوية فى عام ١٩٤٤م وكان متفوقًا فى دراسته، إذ احتل الترتيب السادس على مستوى القطر المصرى بأكمله. والتحق بعد ذلك بكلية الآداب جامعة القاهرة، واختار على وجه الخصوص قسم الجغرافيا لتبدأ قصته مع عبقرية المكان والزمان.
وترجع نشأة جامعة القاهرة إلى عام ١٩٠٨م، عندما افتُتِحت الجامعة الأهلية، التى كانت حلمًا للحركة الوطنية فى مصر آنذاك. وانضمت الجامعة إلى وزارة المعارف العمومية، ووُضِعت تحت الإشراف الحكومى منذ عام ١٩٢٥م تحت اسم “الجامعة المصرية”، هذه الجامعة التى أصبحت حلم أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة منذ الأربعينيات، للتعلم ولكسر النظام الطبقى السابق.
العبور إلى الثقافة الأخرى
وبالفعل نجح حمدان ابن هذه الطبقة فى التخرج من كلية الآداب فى عام ١٩٤٨م بتفوقٍ باهر، وعمِل معيدًا بقسم الجغرافيا، وكما سافر رفاعة الطهطاوى إلى فرنسا، وعلى مبارك مبعوثًا إلى فرنسا، هذه البعثات العلمية التى غيَّرت كثيرًا من إيقاع تطور الفكر المصري، نجح حمدان فى الحصول على بعثة تعليمية فى عام ١٩٤٩م، ولكن هذه المرة إلى انجلترا نتيجة الاتفاقيات العلمية والارتباط الشديد الذى بدأ فى التنامى بين الجامعة المصرية والجامعات البريطانية.
ونجح حمدان فى الحصول على الدكتوراه فى عام ١٩٥٣م، هذه الدكتوراه التى نجحت فى توجيهه إلى وجهة جديدة كان يعشقها، وكان موضوع الأطروحة “سكان وسط الدلتا قديمًا وحديثًا”. وهكذا ارتبط حمدان منذ البداية بجغرافية السكان، وعشق التاريخ، حيث استطاع كسر الحواجز بين الماضى والحاضر، بين الطبيعة والبيئة والتضاريس والإنسان.
ويُعبِّر حمدان عن هذا الاتجاه الجديد الذى برع فيه قائلاً:
“البيئة قد تكون فى بعض الأحيان خرساء ولكنها تنطق خلال الإنسان، وربما تكون الجغرافيا صماء، ولكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها. لقد قيل بحق إن التاريخ ظل الإنسان على الأرض بمثل ما أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان”.
هكذا سيحدد حمدان مبكرًا اتجاهه الفكرى الجديد، وهكذا تمتع حمدان بحسٍ جغرافى وتاريخى مرهف. وتميَّز حمدان بأسلوبه الأدبى الرفيع، ولكنه أيضًا السهل الممتنع. إن اللغة البسيطة والسلسة فى نفس الوقت هى لسان حال الطبقة الوسطى الصغيرة ومفكريها، هذه اللغة التى ستسود فى أروقة الجامعة، وعلى صفحات الجرائد، والروايات الجديدة، لاسيما مع ظهور ثورة يوليو.
العودة والاغتراب:
عاد حمدان إلى مصر ليعمل مدرسًا بقسم الجغرافيا بكلية الآداب جامعة القاهرة من جديد. ويُجمِع معاصروه على نبوغه الفذ وعلاقاته الوثيقة مع طلابه، لكنهم يُشيرون أيضًا إلى اعتداده الشديد بنفسه وكبريائه.
ولكن الجامعة المصرية بعد ثورة يوليو لم تعُد هى نفس الجامعة التى نشأت فى الفترة الليبرالية السابقة. فقد بدأت علاقة الثورة بالتوتر مع أساتذة الجامعة المشبعين بالأفكار الليبرالية التى لا تتفق مع الشرعية الثورية التى اتخذتها ثورة يوليو شعارًا. وحدث الصدام المبكر بين الثورة والجامعة فى عام ١٩٥٤م فيما عُرِّف بالمذبحة الأولى، حيث إن المذبحة الثانية حدثت فى عام ١٩٦٨، إذ تم طرد العديد من الأساتذة من الجامعة المصرية لعل أشهرهم الآن لويس عوض ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وغيرهم. وبدأت الثورة فى إحكام سيطرتها على الجامعة والتعليم بشكلٍ عام، حتى إنها عهدت بمنصب وزير التعليم إلى “ضابط” من أعضاء مجلس قيادة الثورة ليبدأ تسلل مبدأ أهل “الثقة” بديلاً عن أهل “الخبرة” إلى أروقة الجامعة المصرية، ولتبدأ أيضًا مأساة جمال حمدان الجامعية.
كان حمدان أنبغ زملائه فى الجامعة، ولكنه لم يحظَ بما يستحقه وتم تفضيل من هم أقل منه قامة، ولاسيما بعد عمل العديد من أساتذة الجامعة كـ”تكنوقراط” للنظام السياسى الجديد. ولم يكن حمدان من أمثال هؤلاء الذين يُجيدون التأقلم أو التلون مع المستجدات، وساعدت نفس حمدان الأبية على اللجوء إلى العزلة الاختيارية. وربما ساعد عليها أيضًا أنه عاش وحيدًا، فلم يتزوج، وبالتالى ليست هناك أسرة وأولاد تجبره على قبول مساوئ الحياة من أجل لقمة العيش.
وقدم حمدان استقالته لإدارة الجامعة، ووفقًا لرواية شفوية قدمها لنا عميد الكلية آنذاك، انزعجت الإدارة بشدة من هذا الإجراء، ولم تُقبَل الاستقالة، وأرسل العميد من يتوسط لدى حمدان لإثنائه عنها، لكن حمدان أصر بشدة عليها حيث اختار العزلة الاختيارية فى شقته الصغيرة، التى لا يخرج منها كثيرًا، والتى ساعدته على هذا الإنتاج العلمى الوفير الذى ظهر فى صورة العديد من الكتب الرصينة، والعشرات من المقالات المهمة، لعل من أبرزها وأكثرها شهرة:
١- شخصية مصر، ( فى طبعتيها الموجزة والكاملة).
٢- استراتيجية الاستعمار والتحرير.
٣- دراسات فى العالم العربي.
٤- العالم الإسلامى المعاصر.
عبقرية المفكر:
وبطبيعة الحال لا يمكننا تقديم عروض للكتب المهمة التى أصدرها حمدان، فلا يتسع المجال هنا لذلك لغزارة الإنتاج وتنوعه، كما أن هذا ليس هو هدفنا من الكتابة عن حمدان. إنما نسعى لطرح بعض الأفكار المهمة والجريئة لحمدان، والتى ساهمت فى إثراء الفكر المصرى والعربي.
فى البداية لابد من الإشارة إلى ما تميَّز به حمدان من الأمانة العلمية والبدء من حيث انتهى الآخرون. هذه الفضيلة التى اختفت من أوساطنا الثقافية العربية، وأصبح كل منا يدعى السبق والانتهاء فى ميدانه. لقد لفت انتباهى بشدة بداية حمدان عمله الموسوعى عن شخصية مصر بالإشارة إلى جهود سابقيه الذين استفاد منهم فى مجال دراسة الشخصية الإقليمية، حتى من غير الجغرافيين، فيقول حمدان:
“إن البحث فى الشخصية الإقليمية لم يكن عمل الجغرافيين وحدهم بل بحث فيه المؤرخون كثيرًا ابتداءً من سيريل فوكس فى مؤلفه المشهور “شخصية بريطانيا” إلى حسين مؤنس فى “مصر ورسالتها” إلى حسين فوزى “سندباد مصري” وشفيق غربال فى “تكوين مصر””.
أمر آخر برع حمدان فى طرحه بجرأة وتميُّز ألا وهو مسألة الهوية والانتماء ليس فقط على المستوى المصرى ولكن على المستوى العربى أيضًا، وكيفية التناول الهادئ لهذه المسألة.
لقد أثارت الكتابات الأولى لحمدان عن شخصية مصر ضجة فكرية، لا ترجع إلى مناقشة أفكاره الجديدة فى هذا المجال بقدر ما ترجع إلى عقد محاكم تفتيش فكرية حول عنوان الكتاب، حيث استهجن البعض حديث حمدان عن “شخصية مصر” بينما الاسم السياسى لها آنذاك “الجمهورية العربية المتحدة”، هذا الاسم الذى تم اختياره بعد الوحدة بين مصر وسوريا فى عام ١٩٥٨م، وأصر عبد الناصر على الاحتفاظ به حتى بعد انهيار الوحدة فى عام ١٩٦٢م، ومات عبد الناصر ومصر تحمل هذا الاسم. ولم يتغيَّر هذا إلا مع مجىء السادات حيث أصبح الاسم هو “جمهورية مصر العربية”.
على أية حال أخذ البعض على حمدان الحديث عن “شخصية مصر” هذا الاتجاه القُطرى الذى يُخالف النزعة القومية السائدة آنذاك. ويعرض حمدان لهذا الاتجاه المناوئ لنظرته قائلاً:
“ألا يعنى هذا ـ هكذا قد يتساءلون ـ التأكيد على الوطنية المحلية الضيقة فى وجه القومية العربية المشرقة؟ ألا يعنى الحديث عن الشخصية المصرية انغلاقًا وتشبثًا إقليميًا بالمصرية إزاء العروبة؟”.
هكذا تعرض حمدان لهذه النزعة الراديكالية فى رؤية العروبة، والتى أثرت بالسلب على تطور الفكر العربي. ويسخر حمدان من هؤلاء عارضًا لمنطقهم الأعرج قائلاً:
“كلما كنت وحدويًا طيبًا كان من الطبيعى أن تُنقِب عن التجانس الطبيعى داخل الوطن الكبير وتبرزه تجسيمًا وتضخيمًا، وإن أمكنك أن تغفل الفروق وتعتم التفرد المكانى فذاك خير وأجدى وحدوية”.
هكذا يسخر حمدان من هذه النزعات العروبية الراديكالية التى تُصر على رؤية “الكل فى واحد” وتطرح أفكارًا فى الهواء ليس لها أقدام، هذه النزعة التى كانت من أهم أسباب ضياع الحلم العربي. يرد حمدان على هؤلاء طارحًا مفاهيم علمية وعقلية عن الوحدة العربية، إذ يرى أن “التنوع فى الوحدة” أو “الوحدة فى التنوع”. فليس مما يضر قضية الوحدة العربية أو يخرب القومية العربية أن يكون لكل قطر من أقطارها شخصيته الطبيعية المتبلورة، بدرجةٍ أو بأخرى، داخل الإطار العام المشترك.
ويُطبِّق حمدان نظرته هذه على مصر، ويرى فيها نموذجًا لتنوع الاتجاهات ويضع ذلك فى صورة أدبية رفيعة فمصر لديه:
“فرعونية بالجد ولكنها عربية بالأب. ثم إنها بجسمها النهرى قوة بر، ولكن بسواحلها قوة بحر … هى بموقعها على خط التقسيم التاريخى بين الشرق والغرب تقع فى الأول ولكنها تواجه الثانى وتكاد تراه عبر المتوسط”.
إن جمال حمدان فى تحليله المهم السابق هو ابن بار للطبعة الأولى من الفكر الناصري، ونقصد بذلك كتاب فلسفة الثورة المنسوب لجمال عبد الناصر، هذا الكتاب الذى أصدره فى بدايات الثورة، وقبل التجارب الوحدوية الفاشلة، وسيطرة النظرة العروبية الضيقة التى أشار إليها جمال حمدان.
إن أهم ما جاء فى فلسفة الثورة هو طرح فكرة “الدوائر” التى تدور فى إطارها مصر. إذ ركز ناصر على مبدأ التعددية فى هوية مصر، فهى تدور فى الدائرة العربية؛ والدائرة الإفريقية؛ والدائرة الإسلامية، مع التأكيد على أهمية الدائرة العربية. وهى تقريبًا نفس الأفكار التى يُقدِّم لها حمدان تأصيلاً علميًا رصينًا.
اعرف عدوك:
لايمكننا فى الحقيقة التعرض لكل الأفكار الجريئة التى طرحها حمدان فى كتاباته، فالمجال لا يتسع، ولكن لا يمكننا أيضًا تجاهُل كتابه المهم عن “اليهود أنثروبولوجيًا”، هذا الكتاب المهم الذى ظهر تقريبًا فى نفس الوقت مع كتابات أحمد بهاء الدين حول “إسرائيليات” ومبدأ اعرف عدوك، كما نجد تأثير حمدان واضحًا بعد ذلك فى العمل الموسوعى المهم للمفكر المرموق عبد الوهاب المسيرى “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”.
ويقدم حمدان وصفًا دالاً وموجزًا حول أزمة الهوية فى إسرائيل قائلاً:
“دولة دينية صرفة تقوم على تجميع اليهود، واليهود فقط، فى جيتو سياسى … وهى بذلك تمثل شذوذًا رجعيًا فى الفلسفة السياسية للقرن العشرين وتُعيِّد إلى الحياة حفريات العصور الوسطى بل والقديمة”.
هكذا يشتبك حمدان فكريًا، وفى وقتٍ مبكر نسبيًا، مع الأساطير المُؤسِسة للدولة العبرية. لقد اعتاد الفكر العربى قبل أعمال حمدان وأحمد بهاء الدين، وبعد ذلك عبد الوهاب المسيري، على التعامل مع مسألة إسرائيل بالخطاب الدعائى الأجوف الرافض لإسرائيل. هذا الخطاب الذى ادعى فى فترة أن إسرائيل مجرد عصابات عسكرية، وأن مصير إسرائيل المحتوم هو إلى البحر حيث ستزحف الجماهير العربية قبل الجيوش من كل صوب تجاه إسرائيل فلا تجد الأخيرة غير البحر المتوسط مأوى لها ومستقرًا.
للأسف اختزل العقل العربى مسألة المواجهة العربية – الإسرائيلية فى الجانب العسكرى فقط، وأهمل كثيرًا البُعد الفكرى فى المواجهة، مع أن قيام إسرائيل كدولة اعتمد على الأيديولوجية قبل السلاح. فالأيديولوجية الصهيونية هى المؤسس الحقيقى لفكرة إسرائيل، قبل نشأة جيش “الدفاع” الإسرائيلي.
من هنا تأتى أهمية هذا الكتاب الصغير لحمدان “اليهود” والذى سيأصل لحركةٍ عربية عقلانية تتعامل مع الأساطير المُؤسِسة للدولة العبرية، إذ ينسف حمدان نسفًا فكرة “الشعب اليهودي” وبالتالى نظرية أرض الميعاد. ويُبرِز حمدان الاختلافات الأنثروبولوجية الحادة بين الجماعات اليهودية، وبالتالى ينفى وجود شعب يهودى خالص ويرى أنهم “منثور من النوى والنويات السديمية”.
وعلى نفس الدرب يسير عبد الوهاب المسيرى فى موسوعته المهمة رافضًا فكرة التاريخ اليهودى العام، مُفضِلاً عليه “تواريخ الجماعات اليهودية”، حيث يرى المسيرى أن تاريخ كل جماعة يهودية قد يكون له استقلاله النسبى عن تاريخ المجتمع الذى تعيش به هذه الجماعة اليهودية، غير أن هذا الاستقلال النسبى لا يصب فى النهاية فى اتجاه تاريخ يهودى عالمى عام.
ويُبرِز جمال حمدان مبكرًا الارتباط الكبير بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فضلاً على الدور المهم الذى يلعبه اللوبى الصهيونى فى أمريكا لمصلحة إسرائيل، إضافةً إلى دور رأس المال الصهيونى فى أمريكا الذى يصب فى صالح التبرعات للخزانة الإسرائيلية.
يوضِّح حمدان هذا الارتباط الشديد عندما يصِف مدينة نيويورك فى أمريكا بأنها “تل أبيب الكبرى” أو “إسرائيل الكبرى”.
النظرة الغربية لجمال حمدان:
على عكس النظرة العربية التى تحتفى بحمدان مفكرًا عربيًا بارزًا، تأتى بعض الكتابات فى الغرب لتقدم لنا صورة مغايرة تمامًا لحمدان. إذ يختزل البعض حمدان فى صورة المفكر “الشوفيني” الذى ارتبط بفترة المد القومى فى العالم العربي، وأن أطروحته الفكرية ما هى إلا مقولات “شعرية” أكثر منها “علمية” وأنها تفتقر إلى الموضوعية، وأن كتاباته فى الحقيقة تغازل العقل العربى “المهزوم”. وحتى دراسته الشهيرة “شخصية مصر، دراسة فى عبقرية المكان” ما هى إلا تجارة وهى ومحاولة تأصيل فكرى للمقولة الشعبية السائدة أن مصر هى “أم الدنيا”. كما ينقد هؤلاء كتاباته الخاصة عن اليهود وإسرائيل ويتهمها بمعاداة السامية.
هذه النظرة الغربية الضيقة لأعمال حمدان تنبُع فى الأساس من المركزية الغربية، ومن رفض الغرب لحضارة الآخر، وتهميش أى فكر جديد يُخالِف الأفكار السائدة فى الدوائر الغربية، والنظر إلى القومية العربية على أنها حركة “شوفنية”، ونسى هؤلاء أن حمدان درس فى أعرق الجامعات الغربية، واطلع على كل جديد فى مجاله، ولكنها مسألة “قبول الآخر”.
حفاوة أم تكريم:
ربما قارن البعض بين الحفاوة التى لاقاها حمدان بعد وفاته، والتجاهل النسبى الذى عانى منه فى حياته. وربما يصدُق هذا فى مجال الكتابات والتحليل لأعمال حمدان. ولكن لا يصدُق كثيرًا فى مجال الجوائز والتكريم العلمى الذى يخضع لمعايير أكثر موضوعية إلى حدٍ ما فى عالمنا العربي، إذ حصل حمدان مبكرًا فى عام ١٩٥٩م على جائزة الدولة التشجيعية فى مجال الجغرافيا، وحصل أيضًا على جائزة الدولة التقديرية فى مجال العلوم الاجتماعية لعام ١٩٨٥م، ووسام العلوم من الطبقة الأولى فى عام ١٩٨٨م، وجائزة الكويت للتقدم العلمى عام ١٩٩٢م.
الوفاة ليست النهاية:
على قدر هذا التاريخ العلمى الفريد جاءت نهاية جمال حمدان نهاية مأساوية بل ودرامية، اهتزت الأوساط الثقافية فى مصر والعالم العربى لسماع خبر وفاته فى يوم ١٧ أبريل ١٩٩٣م. وكان سبب الوفاة غريبًا إذ قيل إنه حدث تسرب للغاز من البوتجاز أثناء إعداد حمدان لكوبٍ من الشاي.
وقد أثارت هذه الوفاة الفجائية والغريبة العديد من الأقاويل حول السبب الحقيقى وراء الوفاة، حتى إن البعض ذهب إلى أن جهاز الموساد الإسرائيلى يقف وراء هذه العملية، لأن حمدان كان يعُد العُدة لإنهاء كتاب عن إسرائيل؟!
فى حين رأى البعض أن المسألة كانت انتحارًا من جانب جمال حمدان الذى كان يُعانى فى أيامه الأخيرة من اكتئابٍ حاد نتيجة تجاهُل الأوساط الجامعية والثقافية له، فضلاً عن وحدته الإنسانية بلا زوجة أو أولاد.
أما البعض الآخر فرأى أن الوفاة كانت ببساطة شديدة لتسرُب غاز لم ينتبه له حمدان!!
على أية حال كانت وفاة حمدان درامية، مثلما كانت حياته درامية أيضًا، ولكن الوفاة لم تصبح النهاية لقد أصبح حمدان أسطورة ورمزًا فكريًا بارزًا يتسابق الجميع إلى إعلان أنه من قراء حمدان لكى يحصل على “صك” أنه مثقف حتى لو لم يقرأ جملة واحدة لحمدان. غير أن المكتبة العربية ستظل عامرة بمؤلفات حمدان، التى غيَّرت بحق ليس فى مجال تخصصه الدقيق الجغرافيا فحسب بل فى تطور الفكر المصرى والعربى.