انتصارٌ ساحقٌ آخر لمديرية من مديريات أمن الوطن، من المؤكد أن تم القبض على عصابة من عصابات خطف الأطفال أو تجارة الأعضاء، أو قد تم مداهمة خلية من خلايا الاتجار بالمخدرات أو بالسلاح، ولكن الحقيقة أنها كانت خلية ولكن خلية من نوع آخر !! الخلية هذه المرة تتكون من ثلاثة أفراد ( أو أربعة في رواية أخرى بحسب موقع البوابة نيوز ) أحدهم ممثل مسرحي، وقد تم القبض عليهم بتهمة تمثيل مشاهد توحي بأن “المواطنين يأكلون من القمامة” !! ..
فلقد شُكِّلت فِرق البحث وكُثِّفَت التحريات وهَبَّت الحملات الأمنية بالتنسيق مع رؤوساء المباحث للقبض على المجرمين المُعترفين بإثارة الرأي العام ضد مؤسسات الدولة، فالمتهمون مُتهمون باختلاق مشاهد الفقر لتوصيل انطباع خاطيء بعدم مقدرة النظام الحاكم على حل مشاكل المواطنين، وافتعال أزمات اقتصادية غير موجودة بالفعل !! وكأَنَّ مشهد المصري الذي يأكل من صندوق الفضلات جديد على نظر المصريين، فالواقعة مألوفة منذ عهد مبارك ولكن لم تجرؤ الداخلية حينها على فبركة تهمة لفريق تمثيلي بأنه يريد تقليب الرأي العام ! ومشاهد الاقتتال والتناحر في طوابير العيش التي خفَّت حدة وطأتها الآن يُقابلها مشاهد الاحتجاجات على ارتفاع الأسعار وتضخم فواتير الكهرباء وانعدام لبن الأطفال واختفاء الأدوية الحيوية من الصيدليات، كلها مرئية رأي العين، ولا تحتاج إلى خلية للتخطيط لفبركتها، ولا تحتاج لمجانين ليصدقوا تلك المزاعم !!
فالبرد يأكل في عظام الفقراء في فصل الشتاء وما أن يبدأ ذلك الفصل القاسي بصقيعه القارس إلا وتبدأ حملات التبرع بالبطاطبن والأغذية وتسقيف بيوت الريف والعشوائيات، ولا أحد يتهم بنك الكساء أو الطعام المصري بفبركة أخبار كاذبة عن الفقر وتسول البطاطين والملابس !!
والجوع والمرض أيضاً يلتهم البطون الخاوية والأجسام الهزيلة طول العام ولكن في شهر البر والإحسان يتسابق المتسابقون من أصحاب الجمعيات الخيرية ومستشفيات القلب والسرطان في تسول الزكاة والصدقات، ولا أحد يتهم هؤلاء أيضاً بمحاولة تشويه النظام وإبراز عدم قدرته على تقديم أبسط وأولى حقوق الواطنين من غذاء ودواء !!
لم يجرؤ أي نظام سابق على توجيه مثل تلك التهمة لصناع أفلام السينما الذين وصلوا لأبعد مدى في تجسيد الفقر والجوع والمرض في مصر، لم يجرؤ أي نظام سابق أو حالي على محاسبة المسؤول عن التقارير الإعلامية المُفبركة في البرامج التليفزيونية والإذاعية ومداخلات “المواطنين الشرفاء” التليفونية عن مدى سعادتهم بالإنجازات والتطورات والرخاء المكذوب، لم يجرؤ النظام الحالي على الاعتراف بمشاهد التعذيب الحقيقية للمواطنين المعتقلين والخالية من أي فبركة في التنفيذ، والمليئة بمنتهى الفبركة في تلفيق التهم للضحايا والتنصل من مسؤولية الدم المستباح !!
نعم ملايين من المصريين يتسولون الطعام، فعندما لا يُوفر النظام الثلاث وجبات الآدمية لملايين من المواطنين فإن هذا ليس فبركة ولا اختلاق، وعندما يُجسده أحدهم كمشهد تمثيلي فليس هاهنا تهمة مسماة التقليب ضد مؤسسات الدولة أو إشاعة أخبار كاذبة، وإنما التهمة تُوَجَّه لمن دفع المصري للانتحار أو لقتل أسرته مخافة إملاق، التهمة توجه لمن خلق من موظف شريف موظف مرتشي ومختلس لأن ما يتقاضاه لا يكفي غلاء المعيشة، والتهمة الحقيقية توجَّه لكل من يحاول مسخ عقول الناس وإقناعهم بالرضا بالفتات في وقت هؤلاء لا يرضون بذلك الفتات لحيواناتهم الأليفة وكلاب حراستهم !
الفقر المُدقِع حقيقة ملايين المصريين، وخطه الأحمر يشنقهم تضوراً وجوعاً بلا أدنى رحمة، وبعد أن انصهرت شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى لتزيد من مساحة طبقة المُعدمين عدداً وحالاً، فإن المصريين لا ينتظرون مشاهد تمثيلية لإقناعهم بتلك الحقيقة المفجعة، فمهما بلغ من إتقان المشهد التمثيلي فلن يضاهي حقيقة التسول فقراً ومرضاً !!