عشرات الصور من عشرات الأفلام التي لعبت بطولتها تداعت في ذهني فور التقاطها سماعة التليفون لترد على مكالمتي الهاتفية التي جرت بيننا عام 2007 قبل سفري الطويل خارج مصر حيث كنت أطمح في تسجيل حوار صحفي مطول معها ..
ألو .. أعادتها ثلاث مرات بصوتها المتهدج الذي طالما انساب في أحلام صورتها لي أنثى مصنوعة من الكراميل المذاب وإنسانه معجونة بالإحساس والموهبة .
لم تتغير نبراتها كثيرا ولم تتخل عن رقتها قليلا ..
لم أشعر من فرط تواضعها أني أتحدث إلى صاحبة (النظارة السوداء) الأشهر في العالم العربي أو أنشودة ( المستحيل ) المكتوبة (على ورق سوليفان ) بحوالي 75 فيلما سينمائيا قدمت خلالها مجموعة من الأدوار شديدة التنوع أثبتت من خلالها أنها ليست مجرد فنانة جميلة بل ممثلة من العيار الثقيل أوتيت الموهبة الفذة والجمال الأخاذ .
فهي لويز الحبيبة المتدينة في (صلاح الدين) ، و فردوس الراقصة اللعوب في( أبي فوق الشجرة) ، وإلهام المهندسة المتمردة في( للرجال فقط )، و ريري العاهرة المحبة في (السمان والخريف) ، وناني الفتاة المنكسرة في (المستحيل) ، و جينا عضوة العصابة في (جريمة في الحي الهادئ) ، ونادية مناصرة حقوق النساء في (عدو المرأة) .
لم تسجن موهبتها و اختياراتها الفنية في حيز ملامحها الأوروبية الرقيقة أو أنوثتها الجذابة الطاغية ، لم تسمح لنفسها أن تخاف من تجسيد شخصية تستفز طاقاتها التمثيلية وتحرضها على المزيد من الإبداع والجموح .
عشرات الوجوه و الشخصيات تقمصتها في فترة أطلقت فيها العديد من الألقاب على زميلاتها الموهوبات فكان لقب السندريللا لسعاد حسني ، وسيدة الشاشة لفاتن حمامة ، وملكة الإغراء لهند رستم ، وقطة وملاك الشاشة لشادية ومريم فخر الدين .
لم يكن صعبا أن تختار لقبا يقترن باسمها لإضافة المزيد من الهالة الشهية حول الفنان ولكنها لم تفعل ، لم تعاتب أحدا ولم تغضب من أحد ، فضلت ( بولا محمد مصطفى) أن تظل حتى الآن معروفة باسمها الفني مجردا من أي ألقاب .. نادية لطفي .. وفقط .. .. لم تؤمن يوما بشيء أكثر من موهبتها التي كانت كافية جدا لجنون الجمهور بها وعشقهم الجارف لموهبتها وسحرها .
لم تهاجم زميلاتها يوما كما فعل بعضهن يوما آخر ، ظلت تحترمهن وتقدر مكانتهن بمحبة وصدق .. استأذنت سعاد حسني قبل أن تمثل دورها في فيلم ( الخطايا) احتراما لمشاعرها حيث كان من المفترض أن تقوم به سعاد قبل أن يستقر عليها المخرج حسن الإمام .
ودعت فاتن حمامة بحسرة أليمة يوم وفاتها ، وأكدت أنها ستظل سيدة الشاشة العربية في تسجيل سريع باكي من موقع الجنازة .
بكت زميلاتها هند رستم ومريم فخرالدين وأصرت على وداعهن إلى مثواهن الأخير رغم صعوبات صحية شديدة تكبدتها في سبيل ذلك .
“نادية لطفي تعزي الدكتور محمد عبد الوهاب أرمل الراحلة فاتن حمامة”
لم تهتم نادية لطفي في مشوارها سوى بالدور المعروض عليها وإيمانها باختلافه عما قدمته من قبل .. استراتيجية مبدعة تجري الموهبة والصدق في شرايينها مجرى الدم ..
ليكون الناتج عشرات الأدوار التي لعبتها ربما كان أبرزها في اعتقادي الخاص )7 ( شخصيات ساهمت بشكل أساسي في إجماع النقاد والجمهور على تقدير موهبتها وقيمتها الفنية ..
7– مادي
يعتبرفيلم (النظارة السوداء) من أشهر الأفلام المأخوذة عن روايات إحسان عبد القدوس والذي أعد له السيناريو لوسيان لاميير وأخرجه حسام الدين مصطفى عام 1962 ، قدمت نادية لطفي في هذا الفيلم شخصية ( مادي) التي تمر بعدة تحولات جذرية على مستوى والوعي والمشاعر حيث نراها في البداية فتاة أرستقراطية تعيش حياة فارغة سطحية بلا هدف أو قيم تحد من استمتاعها بالمتع المادية للحياة .
الأمر الذي لجأت بسببه لارتداء ( النظارة السوداء ) كتجسيد لرؤيتها المغبشة للواقع من جهة ولمنع أي محاولة اختراق قد تكشف ما بداخلها من مشاعر اختارت لها أن تبقى خفية ، إلى أن تتعرف على عمر ( أحمد مظهر) الذي يسعى إلى تغييرها والتفتيش عن العمق الإنساني داخلها .
تشربت نادية لطفي روح الشخصية حتى الثمالة وعبرت عما تمر به من خواء روحي واستهتار بكل القيم بدءا من الحركة وطريقة المشي وتدخينها للسجائر وصولا لكل ماتمر به من صدمات نفسية وإدراكية تتطلب فهم مثقف واعي بأبعاد الشخصية وماتخفيه من مرارة وإنسانية ، ف (مادي) ليست فارغة إنسانيا من الداخل هي فاقدة للأمل والحافز والإيمان بجدوى الحياة وهو ما أدته بنضج ونعومة لم تجعلنا نفقد تعاطفنا معها حتى قبل تغييرها و وصولها للحظة التنوير .
في الغالب لم يكن ليتحقق ذلك النجاح المذهل لمادي وسط شخصيات روايات إحسان عبد القدوس السينمائية وربما للفيلم نفسه لو أن ممثلة لا تمتلك هذا الكم من الموهبة قد جسدت الشخصية .
6– إلهام أو مصطفى
لا يذكر النقاد هذا الفيلم كثيرا في رصدهم لأهم أدوار نادية لطفي ولكني أؤمن بمقولة الكاتب إبراهيم عيسى رئيس تحرير مجلة (فرجة) السينمائية ( ليست هناك أفلام خفيفة وأخرى ثقيلة .. ولكن أفلام جميلة وأخرى سيئه ) وهو ما تثبته الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها هذا الفيلم حتى الآن .
يحكي الفيلم الذي أخرجه وألفه محمود ذو الفقار سنة 1965 عن إلهام ( نادية لطفي) مهندسة شركة البترول التي تقرر السفر إلى الصحراء لاستكشاف آبار بترول جديدة بعد انتحالها وزميلتها سلوى ( سعاد حسني) صفة وشكل الرجال لرفض الشركة سفر النساء بحجة عدم قدرتهن على تحمل ظروف العمل هناك .
تتوالى الأحداث حتى تنجح إلهام وسلوى في مهمتهما ليثبتا للجميع قدرة المرأة وضرورة مساواتها عمليا بالرجل .
رغم طرافة عقدة الفيلم وخفة ظل مفارقاته وأبطاله الا أن آداء نادية لطفي ( وسعاد حسني بالطبع) للشخصية المتنكرة في مظهر الرجال طوال أغلب أحداث الفيلم ببساطة ورقة ودون أن تقع في فخ التسطيح أوالافتعال الوارد غالبا في آداء ذلك النوع من الشخصيات قد ساهم بشكل أساسي في نجاح الفيلم واقترابه من قلوب الجماهير بهذا الشكل حتى الآن .
5– إلهام
في نفس العام قدمت نادية لطفي واحدا من أهم أدوارها لدى النقاد والجمهور في فيلم ( الخائنة )إخراج كمال الشيخ وسيناريو عبد الحي أديب وموسى صبري عن قصة لإبراهيم الورداني ، حيث قدمت دور (إلهام) الزوجة الجميلة التي تعاني من إهمال زوجها أحمد (محمود مرسي ) واحتياجها العاطفي غير المشبع ، حيث يفاجأ بخيانة زوجته مسجلة بالصدفة في شريط مصور لإحدى رحلاتها الترفيهية ليصر على معرفة عشيقها والانتقام منه ومنها ، لكنه يظل مجهولا حتى نهاية الفيلم الذي ينتهي بانتحارها .
الفيلم دليل دامغ على جرأة نادية لطفي وانحيازها الكامل لإنسانية الشخصية التي تلعبها ، فالزوجة الخائنة لا يتعاطف معها المشاهد المصري والعربي مهما كانت المبررات ولكنها كفنانة مثقفة أدركت الجانب الإنساني لإلهام ، تفهمت معاناتها والضغوط التي حاصرتها بدءا من شكوكها هي في خيانة زوجها لها وصولا لإحساسها بألم الوحدة والافتقاد ومايسببه من عطش عاطفي وجنسي للإنسان يدفعه لارتكاب أخطاء تدينها أعراف المجتمع في أطر صارمة تدينه هو وحده على طول الخط ..
تقرر إلهام الانتحار سريعا .. تفضل أن تعفي زوجها الذي تحبه بصدق من مشقة الانتقام وتبعاته رافضة إلحاحه في معرفة شريك النزوة لتؤكد له قبل ثواني من لفظها أنفاسها الأخيره ( واحد ملوش أي قيمة في حياتي .. أنا محتجتش غير حبك ) .
4 – ريري
ربما تصنف ريري في (السمان والخريف) الذي أخرجه حسام الدين مصطفي عام 1967 عن قصة نجيب محفوظ وسيناريو أحمد عباس صالح كفتاة ليل الا أنها لم تحلم سوى بالحب . ظلت أنقي منه و من الزوجة الأرستقراطية التي لم تتحمل معاناة زوجها عيسى ( محمود مرسي ) ولم تحبه يوما .. عكس ريري التي أحبت عيسى حبا حقيقيا يدركه هو جيدا حيث يسألها ذات مرة ( ايه احسن حاجة نفسك فيها ) فتجيب ببساطه : ( أفضل جمبك علطول .. ) ليعيد سؤالها عن حلمها بعيداعنه فتقول : (يبقالي بيت وراجل يحبني واحبه )
يتخلى عنها عيسى في قسوة شديدة بعد حملها منه فهو غير قادر على الخلق أو النجاح في أي علاقة ولا يرغب في الاتصال بالواقع بأي شكل من الأشكال نتيجة لخسائره الشخصية التي فقد بسببها وظيقته ونفوذة إلى أن يكتشف بأن له بنتا من ريري فيحاول العودة للإندماج في الواقع وتخطي هزائمه والقيام من تحت أقدام الماضي المتشبث به أسفل تمثال سعد زغلول .
لعبت نادية لطفي كعادتها دور مختلف كليا عن كل ما قدمته من قبل فهي ظاهريا فتاة ليل ولكنها في الحقيقة إنسانة منكسرة وأنثى مذبوحه تملك روحا ممزقة ومتشبثة بالتطهر والحب قدمته بآداء متوازن بعيد عن المبالغة أو الفجاجة وباهتمام متكرر ودؤوب بأدق تفاصيل الشخصية شكلا ومضمونا .
3– قسمت
تقدم نادية لطفي في فيلم ( على ورق سوليفان 1975 ) شخصية ( قسمت ) الزوجة التي تقيم علاقة عاطفية بهشام ( محمود يس ) الشاب الذي يصغرها في العمر إلا أنه يبهرها بخبراته وحيويته فتنجذب له تدريجيا على خلفية جفاف ونفور عاطفي تعاني منه في علاقتها بزوجها الدكتور أحمد الجراح الشهير ( أحمد مظهر) والذي تكتشف أبعادا جديدة في شخصيته بعد رؤيتها له في غرفة العمليات لأول مرة مما يعيد لها توازنها النفسي والعاطفي وتقرر أن تظل مخلصة له معلنة اعتبار علاقتها بهشام مجرد نزوة أشبه بورق سوليفان ظاهرها جذاب لكن باطنها ليس كذلك .
ساهمت القصة الناعمة ليوسف إدريس والسيناريو والحوار المرهف لكوثر هيكل والإخراج النابض الذكي لحسين كمال في جعل الفيلم تحفة رومانسية بلا شك ، إلا أن قسمت أو نادية لطفي في هذا الفيلم قدمت – منجما من العواطف والانفعالات هو وجهها المدهش كما عبر الناقد الراحل سامي السلاموني الذي أكد على أنها ممثلة عظيمة وصلت إلى قمتها في هذا الفيلم .
2 – ناني
لم يحظى فيلم ( المستحيل ) المأخوذ عن قصة الدكتور مصطفى محمود عام 1965 بشهرة كافية ولا احتفاء نقدي ربما لانتمائه لمرحلة التجريب في مسيرة المخرج حسين كمال والذي يعتبر أول أفلامه التي نفذها بعد انتهائه من دراسة الإخراج في باريس .
لعبت نادية لطفي في الفيلم دور (ناني) الفتاة الرقيقة المغلوبة على أمرها والتي تعاني من أزمة نفسية شديدة تجمعها بحالة مشابهه بما يمر بها حلمي ( كمال الشناوي) فالإثنان فرضت عليهما تفاصيل حياة عملية وعاطفية تحاصرهما في تحدي أشبه بالمستحيل .
تعبر نادية لطفي من خلال شخصية (ناني) عن صراع داخلي عميق ينتج عن أزمتها في البحث عن الذات معتمدة على الاحساس العميق بأزمة الشخصية ورغباتها المكبوته في التحرر والثورة ضد كل ما تم فرضه على حياتها وإرادتها بتعبيرات أدارتها بإحساس مرهف للغاية ربما لم تأخذ حقها في الإشادة بها رغم الصعوبة الشديدة التي تمتاز بها هذه الأدوار المعتمدة على الصراع الداخلي للشخصية الذي لابد وأن يشعر به المتفرج في كل خلجات الممثل وروحه النابضه على الشاشة .
ماالذي يدفع ممثلة في أوج نجوميتها مثل نادية لطفي أن تقبل دورا عبارة عن 6 لقطات أمام ممثلين جدد في فيلم غير جماهيري لمخرج يقدم إنتاجه الروائي الطويل لأول مرة ؟
ربما كان تفتح مدارك الفنان ومقدار ثقافته وتحيزه لفنه هو ما يشكل بوصلة اختياراته وقيمة تاريخه ومشواره الفني .
وهو ما يفسر قبول نادية لطفي لدور ( زينة) في فيلم يوم أن تحصي السنين المعروف باسم (المومياء) قبل أن تعرف بأنه سيتم اختياره بعد مرور 44 عاما على إنتاجه عام 1969 كأهم فيلم مصري وعربي في الاستفتاء الذي شارك فيه 475 سينمائيا عربيا برعاية مهرجان دبي عام 2013 وأن يعاد عرضه قبل ذلك في مهرجان كان عام 2009 بعد محاضرة يلقيها عنه المخرج العالمي مارتن سكورسيزي والذي قام بإعادة ترميمه كواحد من تحف العالم السينمائية .
ولا شك أن إخراج شادي عبد السلام هو ما أنتج فيلما تكمن أهميته في أسلوبه المتفرد الخاص وشكله السينمائي الخالص على حد تعبير الناقد سمير فريد .
لا شيء تقليدي في هذا الفيلم ، لا القصة ولا البناء ولا السرد ولا الحوار ولا الموسيقى ولا الملابس ولا حركة الممثلين ..
بل لقد تحرر الفيلم من ارتباطه بحقبة معينة لإيصال ماهو متجاوزا للحقب والأزمنة حيث يبكي ضياع التراث المصري وتركه عرضة للصوص الحضارة والثقافة والقيم كواحدة ضمن عشرات الرسائل والإبداعات الفلسفية والفكرية والبصرية في هذا الفيلم .( ربما نخصص عدة مقالات عنه لاحقا ) .
والحقيقة أن نادية لطفي في هذا الفيلم لم تعطي درسا بليغا في فن التمثيل فقط ولكن في أن حجم الدور ليس هو المحدد لإبداع الممثل .
يقول الناقد سامي السلاموني عن نادية لطفي عندما اكتشف ونيس ( أحمد مرعي ) حقيقتها كعاهره واصفا نظرة عينيها بأنها ( أفضل مامثلته نادية لطفي في عملها السينمائي كله ) ويستطرد ( فقد قالت بعينيها العميقتين أشياء كثيرة دون أن تنطق حرفا وحدا ) .
في اعتقادي أن ذلك العمق الذي أشار إليه ناقدنا الكبير هو المخبأ الحقيقي للغز اسمه سحر نادية لطفي .. أميرة القلوب التي لم أزل أتحسس عطرها في حلم لا ينتهي وحوار لم يتم ..
مراجع