أرى أن وزير الثقافة الكاتب الصحفى حلمى النمنم على المحك بين المثقف صاحب الرأى وبين الوزير وما يتطلبه الكرسى من مواءمات وتوازنات، والسؤال الذى يؤرقه هو إلى من ينحاز صوته؟ خاصة وهو يرى أن الدولة فكريا باتت تُعبر عن مؤشر واضح فى الاتجاه المحافظ الذى يخشى أى تغيير فى العلاقة مع مؤسسات الدولة وتحديدا الأزهر بما يتمتع به من تواجد فى الشارع يمنحه سلطة روحية، لأن البديل لتضاؤل دور المؤسسة الدينية الرسمية، يفتح الباب بقوة لتنظيم الإخوان لملء الفراغ، إلا أننى أرى أن الوجه الأساسى لحلمى هو الرهان على الكاتب والصحفى قبل وبعد أن يُصبح وزيرا ويدرك جيدا أن ((الكلمة نور وبعض الكلمات قبور)) كمال قال عبدالرحمن الشرقاوى، ولهذا سينتصر الكاتب فى نهاية الجولة، هذا هو ما أتصوره وتلك هى قناعاتى وأتمنى ألا أكون مخطئا، وتبقى الكرة بعدها فى ملعب الدولة، هل تريده مفكرا أم منفذا لأفكارها وتوجهاتها؟
عندما اعترض حلمى على مناهج الأزهر المليئة بالتفاصيل التى تمهد الأرض للتطرف فى ندوة أقامتها الكنيسة الإنجيلية بالإسكندرية، كان يعبر عن قناعات الكاتب الصحفى وقبلها ببضعة أشهر عندما ذهب إلى نقابة الصحفيين فى مؤتمر أقامته جبهة الدفاع عن حرية الإبداع فى نقابة الصحفيين بعد أن ازداد عدد المثقفين الذين تحيلهم النيابة للتحقيق كان هو أيضا الكاتب الصحفى، وعليه أن يظل منحازا لتلك الصفة، لأن مقعد الوزير كان وسيظل فى حياته مهما امتد عامين أو ثلاثة مجرد سطر بين قوسين.
ولكن دعونا نفكر معا بصوت عال هل الأزهر فى النهاية ليس بعيدا عن توجهات ومحددات الدولة فى كل العصور، هل لديه استقلالية مطلقة؟
تأمل هذا الموقف أولا وبعدها تستطيع أن تُضيف الكثير من الظلال، فى عام 2004 أرادت الدولة عرض فيلم ((آلام المسيح)) لميل جيبسون وذلك بعد أكثر من 30 عاما كان الالتزام بمبدأ عدم تجسيد الأنبياء مطبقا، وبدون أى استثناءات، لم تشهد الساحة السينمائية أو الثقافية أى صراع فى هذا الشأن، لأن القرار صارم ومباشر، ورغم ذلك قررت الدولة عرض الفيلم، ولم يتردد وقتها أن الأزهر احتج مثلا، وكنا فى عهد الشيخ الراحل سيد طنطاوى، أكثر من ذلك تعاملت ((الميديا)) مع الخبر بلا أى قدر من الدهشة، وكأننا لم نمنع قبل ثلاثة عقود من الزمان أكثر من 30 فيلما، تناولت حياة السيد المسيح عليه السلام.
هل كانت الدولة وراء تمرير الفيلم؟ العديد من المؤشرات تقودنا إلى اليقين بأن الدولة طلبت من الأزهر التزام الصمت، فامتثل الجميع، غالبا كانت الرسالة المطلوب أن يقرأها العالم أن مصر بها رحابة فكرية وتسامح دينى يمنح للأقباط أيضا حقهم فى رؤية الأعمال الفنية وفقا لقناعاتهم، وأن النظام حريص على ألا نطبق عليهم الممنوعات الدينية الإسلامية.
لم نسمع وقتها صوتا ما يحتج رغم أن قرارات المنع صارمة ليس فقط بمنع تجسيد الأنبياء ولكن الخلفاء والعشرة المبشرين بالجنة وكل الصحابة، رضى الله عنهم جميعا، الموقف برمته يؤكد أن الدولة تدخلت، والأزهر التزم، ومرت عشر سنوات وجرت مياه عديدة تحت الجسور، وأعلنت دور العرض عن اقتراب استقبال فيلم ((نوح)) وذلك عام 2014 وفى نفس الوقت تردد اسم فيلم آخر ((ابن الله))، كانت دور العرض المصرية تحرص على أن تقدم إشارة تؤكد أن الفيلم سيعرض قريبا، فما كان من الأزهر سوى أنه أعلن رفضه وهو كعادته لا يملك آلية للمصادرة ولكن يكفى أن يتم إصدار فتوى من هيئة كبار العلماء ليُصبح القرار ملزما. حضرت مع شيخنا الجليل أحمد الطيب وقتها لقاء فى مشيخة الأزهر مع عدد من الفنانين والمثقفين، سألته مباشرة عن إمكانية تغيير تلك المقاييس، خاصة أن مسلسل ((عمر)) شاهدنا فيه كل الخلفاء مجسدين وهو من إنتاج شركة ((إم بى سى)) السعودية، وعدد كبير من رجال الدين السنة أيدوا التجسيد ووافقوا على عرض المسلسل، أجابنى بالرفض القاطع، والغريب أن أغلب الحاضرين أيدوه، على الفور التزم وزير الثقافة الأسبق د. صابر عرب، فلقد كان يدرك أن الدولة هذه المرة هى التى ستلتزم بما يريده الأزهر.
كان د. جابر عصفور هو الوزير التالى مباشرة بعد صابر عرب وله رأى فى رفض عدم التجسيد، فهو يناصر التجسيد كما أن له رأيا سلبيا فى مناهج التدريس بالأزهر، وفى لقاء تليفزيونى سألة الكاتب الصحفى حمدى رزق عن رأيه فى مصادرة فيلم ((نوح)) وكان رأيه أنه مع العرض ضد المصادرة ولو كان وزيرا للثقافة لعرض الفيلم، وانتفض الأزهر غاضبا ولم يستطع جابر عصفور أن يتراجع، وفى نفس الوقت أراد أن يتجنب الصدام مع الشيخ الإمام الأكبر فهو بقدر ما ينتقد العقول المتزمتة فى الأزهر بقدر ما يدافع عن رحابة شيخ الأزهر، بل كتب مقالا شهيرا فى الأهرام يضع فيه الإمام، الأكبر فى سلسلة شيوخ الاستنارة حيث تبدأ من الإمام محمد عبده، وكانت الخطة التى يتبعها هى مهاجمة رجال الأزهر ومدح الشيخ الطيب الإمام الأكبر، وتنبه عباس شومان، وكيل الأزهر، الذى تحمل القسط الأكبر من الهجوم فكان يكتب دائما أن آراءه المنشورة وردوده على عصفور قد راجعها وأقرها شيخ الأزهر قبل الدفع بها للمطبعة، وأتصور أن هذا التراشق الفكرى هو الذى دفع السلطة السياسية سريعا إلى التخلص من عصفور وجاءوا بدكتور عبدالواحد النبوى فهو أحد أساتذة جامعة الأزهر، لكنه لم يمكث كثيرا على المقعد ليتم بعدها اختيار حلمى النمنم وسط ترحيب وحفاوة قسط وافر من المثقفين والصحفيين.
المؤكد أن حلمى كوزير مدرك تماما أن الاقتراب من مؤسسة الأزهر يعنى الدخول فى صراع سيدفع السلطة السياسية للبحث عن بديل ترضى عنه المؤسسة الدينية، يتمتع الأزهر الشريف بحصانة سياسية ومجتمعية ضد الانتقاد، تلك هى الحقيقة، الإمام الأكبر يدرك قطعا أن لا أحد يجرؤ، حتى وزير الأوقاف لم يستطع تنفيذ خطته فى توحيد خطبة الجمعة، ولا أتصور أن الانتقاد العابر الذى قاله حلمى النمنم فى الجمعية الإنجيلية قبل نحو عشرة أيام سيؤدى إلى الإطاحة به، ولكن الأزهر لن يترك الأمر يمر ببساطة، رغم أن ما قاله حلمى يقوله آخرون بانتقاد أشد ضراوة. حلمى يقف فى مرحلة حرجة بين الوزير والكاتب، يقينى أنه مدرك أن مقعد الوزير سيظل فى تاريخه الثقافى مهما طال به الزمن سطرا بين قوسين!!
نرشح لك :
طارق الشناوي يكتب : حقيقة بالكاتشب والمايونيز ومكسبات الشرعية!