قال حسان الشيخ الأزهري و”بوَّاب الحانة” :عامٌ كاملٌ يا مولاي حتى رأيتك في حلمِ الأمسِ تنادي عليَّ وأنا أهربُ منك من أجلِ أن أمضمضَ فمِيَ من طعمِ الخمرِ ورائحتِهِ فهل فسدَ القلبُ ؟!
ردَّ الشيخ : كُن حيث وَجدْتَ قلبَك !
ولكنَّ جواب الشيخ ألهب حيرته وشكِّه ..
تتناول رواية “بواب الحانة” حالة حسان الأزهري، الشيخ الذي ضل طريقه لعام كامل، ليكن نبراس أمل وباب توبة لمخضرمين في شرب الخمر، في البدء قام بضرب مخمور ضرباً مبرحاً توبيخاً له على حالة سُكْرِه، ثم انتهى به الحال سكيراً وبوَّابا لخَمَّارة، بعد ذهابه إلى تلك الحانة ليتلمس اعتذار السَّكير ..
من داخل حانة بمصر القديمة بمنطقة الجيَّارة، ومن خلال جنبات الكتاب سافر بك عبد الرحيم كمال في أساطير أشبه بألف ليلة وليلة، في حكاية “جَرَّة الصبر” من التراث الصعيدي، وعندما يضعك تحت القصف الأمريكي في العراق، ومن ثم حكاية عبد الله العراقي الذي وصل لنيل مصر سباحةً من خلال نهر الفرات ..
هناك شخصيات أساسية تَسَلْسَل سرد حكايتها من أول الرواية حتى نهايتها، وأخرى ثانوية بدأت وانتهت في فصل واحد، كالروائي الفاشل ومُعجَبَتِه، والدرويش والخواجاية المُلْحِدَيْن، في إشارة أن رواد الحانة في تنوع، ووفودهم لا نهائي، فمنهم من يدمن الخمر طيلة سنين ثم يتوب ويهجرها، والبعض الآخر يأتيها من حينٍ إلى حين، ولكن تبقى الحانة على حالها في انتظار مزيد من التائهين، في رمز إلى الدنيا ..
كانت هناك مشاهد شيمتها الإطالة، ومشاهد أخرى الاختصارُ كان سمتها، ولكن ما أن دخلت الممرضة “حياة” إلى الحانة كان الحكي عنها متصلاً في فصولٍ خمسة متتالية، لم يقطع التسلسل سوى فصلين قصيرين جداً، كان من الأوْلى أن يتخلل قصة حياة استمرار الحكي عن الشخصيات الأخرى، كنمط الكتاب منذ البداية، ولكن قد يكون تم تكثيف السرد فيها بالقرب من نهاية الكتاب، كونها ستغدو اليد التي ستنقذه من حالة الغرق ..
أرى أنه بالغ في سرد أسماء المشايخ وأصحاب الطرق والمقامات، إذ ذكر ما يقرب من ستة عشر اسم، إلا أن ذلك قد يكون دليلاً للمهتمين بالبحث في أسماء أخذت الدِّين في تسامحه ويسره، بعيداً عن التطرف والتشدد والغلظة والتضييق ..
بالرغم أن عبد الرحيم كمال لم يسترسل في وصف عناصر المكان، فقد ذكر فقط الإضاءة الخافتة وصوت أم كلثوم وأطباق الترمس والجرجير والأكواب الزرقاء وزجاجات الخمر، إلا أنه برع في وصف المنامات، فأثناء القراءة تحس أنك في قلب المنام، لا ينقص إلا أن تستيقظ وتجد نفسك جالساً في الحانة بطلاً من أبطال الرواية ..
بالنسبة للغلاف كنت أودّ أن يكون بألوانٍ أكثر بهجة، ولكنه ربما أخذ نفحةً من روح الغموض الذي ألَمَّ ببعض الأحداث، ولكن على كل حال أنصح بغلاف أكثر وضوحاً في الطبعة الجديدة ..
أثناء القراءة قد يهفو على بالك فيلم “ثرثرة فوق النيل” عن رواية الأديب الكبير نجيب محفوظ التي تحمل نفس الاسم، والتي هام أبطالها في عوامة جعلوها “غرزة” لشرب الحشيش، كلٌ يهذي بشكواه، والتي انتهت بانتفاضة على هزيمة وانكسار النفس بعد نكسة 67، ولكن الانتفاضة هنا كانت على لهو النفس ومتاع الحياة الدنيا الذي رُمز له بالخمر..
اهتم عبد الرحيم كمال بجعل الحكمة تتجلى على ألسنة هؤلاء السكارى، فالمآسي التي واجهوها كفيلة أن تفجرها منهم، كما عرض لمسة سياسية للأوضاع الراهنة، ذكر ثورة يناير وجاء بالفرق بين النفاق والقوادة على لسان شخصية “فريد” الإعلامي، كما لَمَسْت صدقه في وصف العاصمة بالغولة التي تأكل الغرباء وإن تركتهم يكملوا حياتهم طالبتهم بباروكة شعر وطاقم أسنان ..
لم يتح لي أن أتابع المسلسل الرمضاني “يونس ولد فضة” ولكن رائعة “الخواجة عبد القادر” تشبه إلى حدٍ ما “بواب الحانة” ، فالخواجة المسيحي عاقر الخمر قد هتف في نفسه هاتف إلى أن اهتدى للدين، وأصبح خواجة شيخا ذو كرامات، وأيضا فالشيخ الأزهري الذي هام على وجهه فترة في الحانة؛ رجع إلى صوابه في نهاية الأمر بعد أن كانت كراماته شعاع نورٍ للمهتدين، حتى “ونوس” الشيطان جعله عبد الرحيم كمال ينطق بالعظة أحيانا ..
الرواية تخبرك أن السُكر ليس فقط من الخمور، وإنما قد يُذهب العقل أيضاً نظرة حبيب أو بيت شعر أو صوت مغنية، والحانة التي لا تقدم الخمر في رمضان، قدمها عبد الرحيم كمال مباركة، وكأنها ملاذ للَّوّامة أنفسهم، يشكون همومهم فيجدون من ينصت وينصح، ولكن بوابها؛ شيخها الأزهري هو من جعل منها ذلك الملاذ، خلوة للاعتراف اللاإرادي، ومن ثم التوبة النصوح بالإقلاع عن شرب الخمر، وكأن إعراض شيخه عنه في البداية كان درساً له أن يبحث عن كيفية تكفير الذنوب التي نظلم بها أنفسنا ..
قد يبدو أن بُعد حسان عن الطريق القويم لمدة عام عقاباً له، فذاق حال السكارى لفترة، ليعلم ما الذي يدفع هؤلاء لإيذاء أنفسهم بهذه الصورة، فلا يسرع بالحكم عليهم من مظهرهم المخمور، ووجوب دعوتهم بالحسنى والأخذ بأيديهم باللين والنصح، إلا أنني أرى أن تيهه وتخبطه كي يتلقى الكرامة والإلهام والدرس من فترة التيه تلك، وأن الله يخلق الفرج من قلب الضيق، وليس للإنسان أن ييأس من رحمة الله، وألا يتوقف عن توسل المغفرة حتى لو كان مثقلاً بالذنوب ..
نهايةً؛ أتمنى أكون قد وُفِّقت في طرح رؤيتي وأن تكون قريبة من مراد الكاتب، كما أشكره أن وضع القاريء في حالة تميزت بالنورانية والصفاء والسعي للوصول للكمال ..