من الكوابيس التي لا تفارقني… أن أتحول بمرور الأيام إلى قاريء آلي للأخبار (أوتو ريدر)، يجلس بكامل أناقته أمام الكاميرا وجهاز الأوتو كيو – اللذي يقرأ المذيع من خلاله النشره – مطمئنًا أن رابطة العنق في مكانها – لم تخادعني وتتزحزح ناحية اليمين قليلا – تتجمد مشاعري، وتعلو تقطيبة ملامح وجهي، تقطيبة تليق بمذيع أخبار متمرس.. فتختفي ابتسامتي التي تشبهني، وفي لحظة أصير والجسم المصمت الأسود أمامي (الكاميرا)…. واحدًا.
فكر بغيرك
وأنت تعود الى البيت، بيتك، فكر بغيرك
لا تنس شعب الخيام
هكذا أوصانا محمود درويش في قصيدته الرائعه (فكر بغيرك)، في زمن حدود كل واحد منا أظفاره العشرون، كيف نفكر بغيرنا!؟ تذكرت هذه الكلمات وأنا جالس مع أصدقائي أمام أحد المطاعم السورية في حي أكتوبر، وعلى بعد أمتار قليلة منا، تجلس على الأرض سيدة عجوز سورية، ممتلئة طيبة وحنانًا، وجهها خريطة بؤس وشقاء، بيديها نول صغير أو بالأصح خيطان وابرة، تغزل أشياءها الصغيرة.. جرابات للموبايل مزركشة.. وردات صغيرات للزينة.. وعلبًا ملونة…. و تغزل أيامها الآتيات في منفاها الجديد.
ثبت عينيا عليها، أراقب عملها اللذي تؤديه باتقان ومهاره فائقة كفنانة تشكيلية محترفة، (مشهد يتكرر يوميًا، نصادف مئات السوريين – أمقت كلمة اللاجئين – في شوارع المحروسة وأمام الجوامع وقت صلاة الجمعة يتسولون في مشهد مهين، دون أن نفكر كيف يمكن أن نساعدهم) .
انصرفت إلى عملي، فقد اقتربت الساعه من الثانية صباحًا موعد الحصاد الاخباري، وفي رأسي تتدافع أسئلة كثيرة، لماذا تركتها وحيده؟ للماذا لم تشتر منها أي شيء؟ للماذا لم تجلس بجوارها قليلًا؟ وتفتح معها أي حوار كي تختبر انسانيتك، حوار يجعلك مطمئنًا أنك مازلت انسانًا ولم تعد قارئا آليًا للأخبار!!
بدأت نشرة الحصاد.. ومعها بدأت المعاناة، كيف يمكن أن تصنع حاجزًا متوهمًا بينك وبين ما تقرأه من أخبار القتل والدمار والتشريد؟ أخبار تشير ا=إلى أن البشرية تهوى من قاع الى قاع، صورة هذه السيدة لم تغادرني للحظة، تطل بين كل خبر وخبر… صورتها تشبه صور الأمهات في العراق وفلسطين وفي بلادي، كل أوجاع العالم كيف تختزل في كلمات مرصوصة… في خبر أقرأه عليكم، كيف يمكن أن يقرأ المذيع كل هذا العذاب والألم… دون أن تنفجر جمجمته؟!!
في صباح اليوم التالي، قررت أن أمر عليها قبل الذهاب لعملي، توجهت إليها ونظرة عينيها تقول لي: للماذا تأخرت؟! كنت في انتظارك!
تحدثت معها طويلًا….
(اسمها أم سالم من مدينة الرقة التي سويت بالأرض، لطالما ذكرت اسم مدينتها في نشرات الأخبار، تعيش في غرفة صغيرة مع بناتها الثلاث، ومنذ غادرت الرقة من سنتين انقطعت أخبار سالم ابنها الوحيد عنها) قالت لي: إنني أشبهه كثيرًا، كانت تحكي وفي نبرة صوتها أسى شفيف وحزن جميل، أخذت أعزي روحها بكلمات من قبيل: أنني في مقام ابنها، وكلنا أهل وعرب… كلمات أعرف أنها لن تداوي فقدها وجروحها الكبيرة.
تركتها.. وفي أعماقها وطن ينوح…. وحفنتان من الثرى.
توجهت لعملي، وصوت درويش يشدو في روحي:
فكر بغيرك
وأنت تعود الى البيت، بيتك، فكر بغيرك
لا تنس شعب الخيام.
اقرأ أيضًا: