كل صباح أنظر فى عيونها الحزينة وهى ترتدى جلبابها المنقوش بالورد البلدي، وتلتف بشالها الأسود، تبتسم لى وتستحلفنى دون التفوه بكلمة أن أرد لها روحها التى سرقها الزمن وملامحها التى شوهها التطور، وأحدث نفسي “يابهية وخبرينى مين قتل فيكي الحنين؟”،
محاولة إقناع قلبى أن يد جيلي بريئة من سرقة عمر بهية براءة الذئب من دم ابن يعقوب . فى بداية سبتمبر كنت أجلس فى دار الأوبرا بالقرب من مركز الإبداع الفني، وسمعت صوت بهية ينادينى وتمد يدها لتمسك بيدى، فأجد نفسى دون مقاومة أذهب لأحضر تذكرتين أحدهما لى والآخرى لصديقتى لعرض “غنا مصري”، لم أكن أتوقع أن بداخل ذلك العرض سأجد روح بهية محلقه فى فضاء الحنين قرابة ساعة ونصف أو أكثر قليلًا فأحضر العرض ثلاث مرات
فرقة صعيدية “مزمار وربابة وناي ورق وصاجات وما أدراك ما رجل الصاجات ومدى البهجة التى يبثها فى روحك بفطرته وشغفه وكأنه طفل يلهو فى ليلة عيد”، وثلاثي مختلف ومميز “ماهر محمود ورباب ناجي و مصطفى سامي”، بقيادة المايسترو محمد باهر، والمايسترو الأكبر المتخصص فى العزف على جراح الوطن وكشف علته والبحث عن علاج لها هو المخرج الحالة الذى لن يتكرر خالد جلال.
خالد جلال، ليس مخرجا عاديا وإنما بيته “مركز الإبداع” هو البلورة السحرية التى تفرز لنا صفوة من المواهب الاستثنائية فى جميع المجالات “تمثيل – إخراج مسرحي – ديكور- غناء – رقص”، كوكب فن منعزل تمامًا عن العبث الذى نعيش فيه ويقتل فينا كل حلم أخضر فى بدايته بالإسفاف والمتاجرة والعرى، فتمكن تلك المرة من معرفة ما تشكو منه بهية وهو فقدان روحها فقرر أن يرد روح بهية بعرض “غنا مصري”.
“سيدة يا سيدة يا أم الشموع القايدة .. يا أخت الحسن وأخت الحسين ..يا بنت أشرف والدة”، وجدت نفسى أمسك بطرف جلباب جدتي وهى تشترى لى مشبك من مولد السدة زينب ثم تدعو لى بجوار مقامها، ولم أرى رباب واقفة على مسرح الإبداع بل فى شادر مصري فى قلب السيدة زينب، والجميع يتمايل معها تاركين هموهم خارج الشادر.
ثم شعرت بدفء جدتى فى ليلة شتاء قاسية وهى تشعل وابور الجاز صديقنا فى البرد وتجدل لى ضفائرى، وتغنى وهى تتلهف لزيارة مكة وقبر الحبيب المصطفى” رايحة فين يا حاجة يا أم شال قطيفة .. رايحة أزور النبى محمد والكعبة الشريفة، فاطمة يا فاطمة يا بنت نبينا افتحى البوابة يافاطمة أيوكى داعينا”، ووجدت رائحة جدتى تملأ صدرى.
ثم تترنح روحك وهى تمدح الرسول “طه الرسول.. طه الرسول .. ابن الأصول.. ابن الأصول”، وفجأة بخفة دم تتسع ابتسامتك على كلماتها ” قالوا الودع موصوف للى انشغل باله .. أنا قولت أروح وأشوف بختى أنا ماله” التى تعيد روح الست خضرة محمد خضر إلى المكان، وكم كانت تلك الأغانى تعبر عن الهوية المصرية فمن عادتنا كمصريين قراءة الفنجان بعد العصر وضرب الودع فكانت لا توجد به وسائل ترفيه لربات البيوت غيرها، فكان فى كل بيت “عدة القهوة النحاس”.
وبصوت هادىء يتخلل روحك بأناقة بالغة، نجد مصطفى يقول المربعات بشكل جديد وعصرى لكنه يحمل روح الماضى “أول كلامى أنا باذكر الله… واحد على الخلق راضى، رفع السما بدون عمدان… سبحانه باسط الأراضى”، صوت مصطفى عريض وناعم فى آن واحد يتملك من مشاعرك برباط محكم ثم تتأرجح روحك مع نغماته كعرائس الماريونت، بتمكنه من اللهجة الصعيدية وقدرته على الحكى بالغناء.
من المؤكد أن تلك الأغانى لم يتم اختيارها عبثًا فمصطفى وهو يغنى باللهجة الصعيدى “ساعة معااااك.. أنا ليا جعدة.. وساعة معاك .. أبدى من روحى أفضلك وأحبك وأشكر أفضالك .. عايزك تفضالى وأفضالك”، نشعر كم باتت حياتنا ” شات ولايك وشير “، وافتقدنا الحوار الحى حتى أصبحنا غرباء ونحن فى غرفة واحدة.
أما ماهر فهو ممثل ومطرب مما يجعل أدائه مختلف ومميز، فيُسكر روحك صوته العذب عندما يتغنى “وكف المصطفى كالورد نادى .. الله الله .. وعطرها يبقى اذا مس أيادى .. وريق المصطفى يشفى العليلا”، لن تمر الكلمات على أذنك مرور الكرام بل ستستريح فى وسط روحك وتمكث طويلًا حتى يصل نورها إلى عينيك فتمتلأ بالحياة.
سمعت أغنية “بتنادينى تانى ليه” من دنيا مسعود لم أحبها ولم أعد أرغب فى سماعها من أحد جديد لأن تلك الأغنية أحبها كثيرا وترتبط معى بذكريات طفولتى، ولكن عندما قام ماهر بغناءها بصوته الذى يتحكم فيه بدرجة عالية من الاحتراف والذكاء حيث قام بوضع أساس الأغنية كما هو ثم صبغها بعُربه الخاصة واللعب بطبقات حنجرته وكأنها سواقى تفرغ ماءها ثم تملأه كما تشاء دون أن تسقط قطرة ماء واحدة بشكل غير منتظم.
تشعر أن صوت ماهر عتيق ينقشه بالأحجار الكريمة الغنائية، وبخفة دم وأداء لطيف يشع حالة من البهجة غير المفتعلة بين الحاضرين، فتسمع منه “بتنادينى تانى ليه .. أنتى عايزه منى أيه .. مش خلاص حبيتى غيرى .. يا شيخة روحى للى حبيته” بطريقته الخاصة ومشاركة رباب بجملة “يا جميل” ستظل على لسانك.
السر وراء ذلك العمل النابض بالحنين هو الإيمان بإحياء تراثنا الذى كاد أن يندثر والجهد والتعب والبحث عن الاختلاف، فهذا الفن كما قال خالد جلال “لا يعرف أن يقدمه سوى أهله”، حقا إذا شعرنا أننا أهل لتراثنا سنستطيع تقديمه، فكما برع زين محمود وياسين التهامى وخضرة محمد خضر وجمالات شيحة ومحمد طه وغيرهم فى الحفاظ على هذا اللون، يستطيع جيلنا أن يرد إلى بهية ثوبها الأصيل.
خالد جلال شكرا لك على رد روح بهية، على محاربة الوحش المشوه الذى يلتهم أرواحنا، شكرا لك على بناء محراب فن يخرج لنا مواهب نقية قادرة على تلوين الحياة بالأصالة، شكرا لك على تلك الليلة التى أثبت لنا فيها أنه بإمكاننا تغير الواقع المظلم وإنارته بالفن .. ومدد يا بهية مدد.