هالة منير بدير تكتب : الهروب من وإلى تيران

هو ليس ضمن مجموعة من الأصدقاء قرروا تسلق جبل في أحد الشهور الشتوية ثم مات تجمداً مثل ضحايا سانت كاترين منذ ما يقرب من الثلاثة أعوام كي يبادر كثيرون بقول “إيه اللي ودَّاه هناك ؟!” ، وهو أيضاً ليس أحد المصريين الذين يهاجرون بطرق غير شرعية ويموتون غرقاً في البحر ليقول كثيرون: “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”، فهو مغترب مصري كملايين غيره في بلاد الله التي استقبلته بعد أن ضاق به وطنه ولم يجد فيه من سبل الحياة الكريمة ما يسد رمق العيش ..

هالة منير بدير - مقال
هالة منير بدير

المصري “محمد سعد محمود” سافر من مصر إلى السعودية هرباً من البطالة، لِيَفِرَّ من السعودية إلى مصر هرباً من نظام الكفالة، وبعدها تقدَّم أخوه ببلاغ للأمن حال وصوله للجزيرة ليتم البحث عنه دون أي أمل بالعثور عليه حياً أو ميتاً، وبعد شهور وجدوه جثةً متحللة حتى الهيكل العظمي على جزيرة تيران المصرية، لقد مات المسكين جراء الإرهاق من السباحة والجوع والعطش، ولم تنفعه بضع مئات من الريالات سواء كانت راتبه المُدَّخر أو كما يدَّعي البعض أنها نقود سرقها من كفيله، فالمهم أن المحصلة النهائية هو ميتة شنيعة على تراب مصري يستميت النظام وأنصاره بإثبات سعوديته، وعقول وألسنة لا تملك أقل قدر من إنسانية للخوض في عرض إنسان هو في كل الأحوال ضحية إهمال واضطهاد ..

تلقيت نبأ العثور على جثة الشاب على جزيرة تيران وأنا على أحد شواطيء شرم الشيخ في نقطة هي الأقرب إلى جزيرة تيران، تبزغ أمامي الجزيرة الذي قضى القضاء المصري باستمراريتها ضمن الإقليم المصري، ولازالت بعض الفنادق والمنتجعات تحمل في أسمائها كلمة “تيران”، وتنطلق إليها الرحلات البحرية كل يوم للغوص واستكشاف الطبيعة الخلابة في قاع البحر، وكان يسبح أمامي في نفس لحظة قراءة الخبر أسرة سورية كبيرة العدد من كافة الأعمار، عندها تبادر إلى ذهني أن هؤلاء السوريين الذين طالما صدَّع مطبلون السيسي أدمغتنا بمأساتهم هم الآن في حال أفضل من ذلك المصري، هم الآن ينعمون بماء البحر وأشعة الشمس ودفء الشاطيء ورغد العيش في بلد هو بالنسبة لهم بلد مهجر، في الوقت الذي تُنقل فيه جثة المصري إلى شرم الشيخ، والذي هُدِرت كرامته مرتين، مرة بنظام الكفيل السعودي، والمرة الأخرى حين هُدِرت حياته حين فكر الرجوع إلى وطنه، “رميت نفسك في حضن .. سقاك الحضن حزن” أغنية شهيرة لعبد الحليم حافظ قد تكون خلفية غنائية باهرة لذلك المشهد البائس ..

“مش أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق”، الفزَّاعة التي طالما استخدمها المضللون لتخويف المصريين، وكأن كل السوريين أصبحوا متسولين باعة مناديل في إشارات المرور، لا يذكرون أن آلاف منهم يعيش في مصر حياةً أفضل من المصريين أنفسهم، صحيح أن ملايين تم تهجيرهم من سوريا العزيزة هرباً من الحرب، ولكن في مقابلهم كان ملايين المصريين قد تم تغريبهم عن وطنهم طوعاً بحثاً عن لقمة العيش، وصحيح أن آلاف السوريين قد ماتوا غرقاً في البحر وآلاف ماتوا تحت الأنقاض في سوريا، ولكن سبقهم إلى الغرق أيضاً مصريون هربوا بطرق غير شرعية، وآخرون ينتظرون الموت كل يوم من فساد مستشرٍ في بلد نظامه الفاسد لم يسقط بعد، إذاً فالنتيجة النهائية التي هي حال ملايين من المصريين لعقود متتالية هي شبيهة إلى حد كبير بحال جديد لكثير من السوريين في الخمس سنوات الأخيرة، دون صواريخ روسية أو براميل متفجرة، هي الموت جوعاً ومرضاً وفقراً ..

ربما تحرك حادثة المصري على جزيرة تيران المياه الراكدة في قضية العمالة المصرية ونظام الكفيل السعودي، فكم تعددت حالات الانتهاك والاضطهاد والإجبار على تقديم التنازلات ليتم نقل الكفالة أو الرجوع إلى مصر، أو العيش لشهور دون تلقي المستحقات المالية واحتجاز جوازات السفر، وربما تعرضوا في نهاية الأمر لمحاكمات غير عادلة في وقائع ملفقّة انتقاماً منهم، وفي المقابل لابد من تقوية دور السفارة والتأكيد على ضرورة أن تكون هي الملجأ والملاذ لكل مصري لا يستطيع انتزاع حقه ومنعه من أن يُعرِّض نفسه لتلك النهاية المأساوية، وربما كانت تلك الحادثة أيضاً خير شاهد على قضية حُبِسَ فيها عشرات ممن قالوا وكتبوا بمصرية جزيرتي تيران وصنافير ..

من المآسي اليومية يتضح جليَّاً أن النهايات السعيدة لا توجد إلا في خيال السينما، فالممثل توم هانكس الذي عاش على جزيرة وحيداً لشهور في فيلم “كاست أواي”، واستطاع أن ينجو بنفسه في النهاية، لم تتحقق تلك النهاية مع بطلنا في العالم الواقعي الظالم، ذلك الواقع الذي يقوم فيه طفل ذو ثلاثة عشر عاماً بعبور البحر الأبيض المتوسط في إحدى مراكب الهجرة غير الشرعية بحثاً عن علاج لأخيه المصاب بالسرطان، لم يجده في وطن يتغنى له المطربون بكلمات مثل “ماتقولش إيه اديتنا مصر قول هندِّي إيه لمصر!” ، “مصر اللي عايشين من خيرها!”، وطنٌ يلفظ أبناءه حتى في اللحظات التي يهرعون فيها إليه !! ..

فأعوذ بالله من غلبة الدين وقهر الرجال ..

نرشح لك – هالة منير بدير تكتب: أزْهَرِيٌّ بَوَّابًا لِلْحَانَة