كما بدا لنا بوضوح في مقالي السابق “بعيداً عن السياسة .. حصة الرسم” أن القائمين على التعليم وأعتقد جزء كبير من الأهل لم يدركوا أهمية حصة الرسم ( التربية الفنية ) في العملية التعليمية ودورها في بناء شخصية الطفل، أيضاً لم يدركوا دور حصة التعبير وأهميتها .. فإذا كان من فوائد تعلم الرسم و خاصة في الصغر تنمية الذوق والإحساس، وكذلك يُعد وسيلة لتفريغ الطاقات وكما يقول علماء النفس بأنه يمكن تحليل شخصية الطفل من خلال رسوماته واختياره للألوان ولا يتسع المجال هنا للحديث عنه ، إلا أنه يمكننا القول أن الرسم يعد أيضاً أسلوب من أساليب التعبير عن النفس ..
– كلنا نعرف أن هناك “تعبير تحريري” وربما لا يعرف الكثير منا أنه من المفترض أن يكون هناك أيضا ً “التعبير الشفهي” ، لذلك فأهمية حصة التعبير لا تنحصر فقط في كونها تنمي مهارة الكتابة واكتساب المفردات المناسبة و توظيفها في مكانها الصحيح، بل تتعدى ذلك بكثير وتؤثر مستقبلاً في حياتنا بشكل عام، وفي علاقتنا بجميع من حولنا سواء في البيت أو العمل، وتجعلك قادر على حرية التعبير عن مشاعرك تجاه الآخرين بشكل لائق لا يسبب حرج، وربما هذا ما يفسر لك ظاهرة وجود كثيرمن حملة أعلى الشهادات لا يجيدون الحوار أو التعبير مما يسبب لهم مشاكل كثيرة في حياتهم العملية والشخصية، بالإضافة طبعاً لدور حصة التعبير في تنمية اللغة من الناحية الإملائية والنحوية و الذي كان من نتائج إهمالها سبب رئيسي نراه الآن في الأخطاء اللغوية والإملائية عند كثير من خريجي الجامعات، وفي كثير من الأحيان تجد موظفاً لا يجيد صياغة تقرير عن عمله أو مديراً لا يجيد صياغة خطاب رد على جهة إدارية ما، وقد سمعنا على مدار سنوات طويلة عن أخبار تذكر أسماء كتاب وصحفيين كانوا يكتبون الخطب للرؤساء، وبرغم ذلك كان هناك تباين واختلاف كبير بين قدرة كل رئيس في إلقاء خطابه، مما كان له الأثر في نفوس الجمهور بالإيجاب والسلب مهما كان المحتوى ولا ننسى جميعاً خطاب مرسي الشهير لصديقه العزيز “شيمون بيريز” ..
وعلى الرغم مما سبق، إلا أنه للأسف لم تكن حصة التعبير أوفر حظاً من حصة الرسم، فلعلنا نتذكر أن معظم مواضيع التعبير كانت هي نفس مواضيع الرسم تقريباً، و طبعاً طبقاً للمناسبات كانت المواضيع الاعتيادية : حرب أكتوبر، وفضل صيام شهر رمضان، عيد الأضحى المبارك، رحلة إلى الأهرامات، نزهة في القناطر الخيرية، وينتهي كالعادة بفصل الربيع وشم النسيم، ولا أتذكر مرة واحدة أن طلب منا مدرس التربية الفنية أو مدرس اللغة العربية أن نرسم أو نكتب مواضيع حرة وفقاً لما يتراءى لخيالنا ..
هل تتذكر حضرتك مرة واحدة أن اختار مدرس اللغة العربية أي موضوع تعبير لأي طالب و طلب منه أن يقرأه أمام الفصل ثم ناقشه فيما كتب من جمل أو عبارات أو مفردات استخدمها أو وظفها في مكانها الصحيح بشكل جميل، أو وجه الطالب لتغيير مفردة ما لتكون أكثر دقة في الوصف والتعبير وتلائم السياق الذي كُتبت فيه ؟!
من ذكرياتي في حصة التعبير في المرحلة الابتدائية، يوم أن طلب منا المدرس أن نكتب موضوعاً في حب مصر، ثم قام بشرح عناصر الموضوع، قائلاً : “وطنك الذي ترعرعت تحت سماه وشمسه الدافئة، وشربت من نيله العذب” ، وطلب منا كتابة تلك العناصر لكي نستعين بها، هنا توقف تركيزي عند كلمة “ترعرعت” وأول شئ خطر ببالي حينها كلمة ” ترعة ” و شرعت في تأملها وما علاقتها بالأخرى، وهل لأن الترعة مجرى مائي تروي الأراضي، يكون لها علاقة بالنمو أو الرعاية ؟! ثم بعد ذلك وإجمالاً لم تعجبني عناصر الموضوع، ببساطة شديدة وجدت نفسي أردد في تلك السن الصغيرة، أحب بلدي لأنها بلدي بدون أسباب، وهل إذا لم يكن بها نيل كنت سأكرهها ؟! وأين يترعرع كل الناس ؟ أليس تحت سماء بلدانهم ؟ وأذكر يومها أني واجهت صعوبة شديدة في كتابة موضوع التعبير وحتى عندما استعنت بإخوانى الأكبر مني لم أقتنع بما قالوه لي من عبارات لكي أضيفها، واكتفيت أني كتبت ما أملاه علينا المدرس من عناصر وبطريقة مختصرة مقتضبة ..
كنت أود أن أسأل مدرسي الرسم والتعبير (اللغة العربية) هل أنتم راضون عن هذا الأسلوب التعليمي ؟! وكم مرة اكتشفتم مشروع فنان أو كاتب أو شاعر من بين طلابكم بالمدارس ؟! هذا إذا كانوا مؤهلين فعلاً للاختيار والاكتشاف ؟! وهل فيكم من اعترض أو أبلغ ملاحظاته للموجهين ؟! مع ملاحظة طبعاً أنه لم نرَ مرة واحدة موجه للرسم يمر على الفصول كما كان يحدث مع المواد الأخرى وكذلك الحال بحصة التعبير، أما الآن أشفق عليهم وأعتقد أنه كان لديهم العذر، خاصة مع العدد الكبير للطلبة الذي بلغ وقتها 48 طالباً والذي يصل أحياناً الآن إلى 60 طالب لا يمكن معه بأي حال من الأحوال أن أطلب من المدرس أن يمر على كل طالب لكي يشرح له كيف يرسم وجه، أو أتخيل أن بمقدوره أن يقرأ مواضيع التعبير قراءة الناقد الذي يُقَيِّم نصاً أدبياً، خاصة أنه كل منهما يدرس لأكثر من فصل وحصتي التعبير والرسم حصة أسبوعية وليست شهرية ..