نقلًا عن مجلة 7 أيام
رغم اعتزازى واحترامى بكل أساتذتى وزملائى وأصدقائى رؤساء التحرير داخل مصر وخارجها.. فإن اعتزازى الأكبر الآن يخص الزميل الجديد باراك أوباما.. فقد عرضت أسرة تحرير مجلة وايرد الأمريكية الأسبوع الماضى على أوباما فكرة أن يتولى رئاسة تحرير المجلة لمدة شهر إلى جانب رئاسته للولايات المتحدة الأمريكية.. كان مُثيرًا أن تطرح مجلةٌ أمريكيةٌ مثل هذه الفكرة، والأكثر إثارةً كان قبول الرئيس الأمريكى لدور ومنصب رئيس التحرير.. وقد اتَّضح فيما بعد أن الأمر كله ليس شكليًّا أو هزليًّا لأن أسرة التحرير انتقلت بالفعل إلى البيت الأبيض ومعها موضوعات مُقترحةٌ وأفكار وصور للعدد الجديد.. ووقف باراك أوباما يراجع كل ذلك بنفسه، ويختار الموضوعات، وأفضل تصميم فنى لها، مع الصور المناسبة، ويحدد موضوع وعنوان الغلاف مثل أى رئيس تحرير آخر.
وعلى الرغم من أن مجلة وايرد متخصصةٌ فى مجال التكنولوجيا الرَّقمية.. فإننى لا أتوقف أمام ذلك قدر اهتمامى بالمبدأ نفسه.. مبدأ الرئيس الأمريكى وقبوله لمنصب رئيس التحرير المؤقت.. وأعجبتنى فكرة أن يقف الرئيس الأمريكى فى مكتبه داخل البيت الأبيض وقد وضع أمامه موضوعات وأفكارًا وانشغل بالاختيار بينها استنادًا إلى رؤاه عن اهتمامات وشواغل ومشاعر وهموم وطموحات واحتياجات المواطن الأمريكى.. فهى بالتأكيد خطوة غير معتادة وغير متوقعة من الرئيس الأمريكى أو أى رئيس آخر.. لأن الرئيس اعتاد أن يقرر ويختار ويضع رؤاه وسياساته ثم يمضى وحده تاركًا ذلك كله للناس يختلفون ويتفقون ويحللون ويوافقون ويعارضون.. أمَّا هذه المرة.. فالرَّئيس أصبح هو الذى يفكر فيما قد يشغل الناس أو يهمهم.. يعنيهم ويثير اهتمامهم أو لا يمثل لهم أى شىء.
وهو أمرٌ جميلٌ وصحىٌ وضرورىٌ أيضًا حكاية تبديل المقاعد بين الحين والآخر.. من مقعد الرئيس لمقعد رئيس التحرير.. فالحياة الواحدة.. والبلد الواحد.. والمجتمع الواحد.. لا يراها رئيس الجمهورية ورئيس التحرير برؤية واحدة أو بنفس القواعد والحسابات.. ولهذا، قد يكون جميلاً تبادل الأدوار بين الحين والآخر.. فيجلس كلٌ منهما فوق مقعد الآخر، ويرى كل شىءٍ كما يراه الذى كان يجلس على المقعد الآخر.. رئيس الجمهورية يرى كل شىء بعيون الصحفى الذى يمشى وسط الناس ويسمعهم ويأكل ويشرب بينهم ويعيش الأزمات والمشكلات ويسمع الصرخات والدعوات والأمنيات.. والصحفى أو رئيس التحرير الذى يجلس فوق مقعد الرئيس ويبدأ فى التعامل مع الواقع والناس والحكايات بحسابات وقواعد رئاسية صعبة وصارمة وقاسية أحيانًا.. وأنا لا أخجل مُطلقًا من الاعتراف بأننى أحيانًا تخيلت أننى أصبحت رئيسًا لمصر ولست رئيسًا لتحرير مجلة أسبوعية تصدر فى مصر.. وأشعر بالتعب والاكتئاب حين أعيش هذا الخيال.. فالحياةُ من فوق مقعد رئيس التحرير أسهل كثيرًا من رؤية نفس الحياة من فوق مقعد رئيس الجمهورية..
فالصحفى يملك حق انتقاد كل أحد وكل شىء.. يتحدث طوال الوقت بمنتهى الحرِّية وأحيانًا بمنتهى الاندفاع عن جرائم وفساد وعيوب وأخطاء وتجاوزات.. وممكن جدًا أن يُخطئ أو يُبالغ أو يَتجاهل أو يَتمادى أو يَنسى أو يَترصَّد دون أن يحاسبه أحدٌ.. كما أنَّ الصحفى.. بالتحديد فى مصر.. ليس مُطالبًا بأى حلول أو تقديم أية أفكارٍ بديلةٍ.. فإذا كان جميلاً ورائعًا أن يرفض الصحفى ويُعارض كل ما يراه ويسمعه ويعيشه من أوضاع وسياسات وقرارات خاطئة.. فالأجمل بالتأكيد أن يُشير الصَّحفى إلى الخطأ ويبدأ فى نفس الوقت البحث عن الصواب.. فكل سياسة خاطئة لها بديلٌ.. وكل قرارٍ خاطئٍ ممكن تغييره بشرط ألا يكون البديل هو قرار آخر خاطئ أيضًا.
وهكذا.. جلست طويلاً مُستسلمًا لأفكار وخيالات بعدما قرأت حكاية الرئيس الأمريكى باراك أوباما الذى أصبح رئيسًا مؤقتًا لتحرير مجلة وايرد.. خصوصًا أن أوباما كرئيس للتحرير قرَّر أن يكون محور العدد الجديد هو أفضل سبل استخدام التكنولوجيا الرَّقمية لمساعدة المواطن والمجتمع الأمريكى لحل العديد من المشكلات وتجاوز الكثير من الأزمات.. وأظن أن أوباما بعدما قرأ موضوعات هذا العدد وتحاور مع الصحفيين الذين يترأسهم مؤقتًا.. يجلس من جديد فى مكتبه البيضاوى كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية وقد أصبحت لديه تصورات أكثر اختلافًا وقد تكون أكثر عُمقًا أيضًا.. لكننى الآن أعود لخيالاتى مرةً أُخرى وأستبدل مجلة وايرد بمجلة تايم أو نيوزويك أو صحيفة الواشنطن بوست أو النيويورك تايمز وقد أصبح باراك أوباما رئيسًا مؤقتًا أيضًا لتحرير أىٍ منها.. فأنا أتمنى من هذا رئيس التحرير الجديد أن يلتفت مثلاً للتقرير الذى سبق أن أصدرته إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية بشأن الفراولة المصرية غير الصالحة للاستخدام الآدمى.. وقبله كانت هناك تقارير أخرى عن أغذية ومشروبات قادمة من مصر وثبت للهيئة الأمريكية عدم سلامتها أو صلاحيتها لاستخدام المواطن الأمريكى.. وما أطلبه الآن من رئيس التحرير أوباما هو الكف عن استخدام كلمات وأوصاف المنتج المصرى.. الغذاء المصرى.. فهذا التعميم منتهى الظلم.. وإذا كنَّا نحن فى مصر لانزال نمارس هذا التعميم القبيح والظالم والفادح والفاضح.. حيث كل رجل أعمال فاسد.. وحيث كل مؤيد منافق وكل معارض عميل وخائن.. وحيث كل مسئول فاشل وكل شيخ تقى وكل صحفى باحث فقط عن الحقيقة.. فمن الأولى بالصحافة الأمريكية أن تكون أكثر عمقًا وترفعًا عن تلك الممارسات.. وحين تنشر إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية تقريرًا بشأن فراولة مصرية فاسدة.. فلابد من تتبع مصدر هذه الفراولة لأن السلطات الأمريكية بالتكايد تستطيع ذلك بمنتهى السهولة.. تستطيع أن تعرف فى دقائق من الذى قام بتصدير هذه الفراولة إلى الولايات المتحدة من مصر.. اسم الشركة المصرية التى أرسلتها والمستورد الأمريكى الذى تسلمها.. ومتى كان ذلك.. وسوف أجد من يعارضنى ويقول إن السلطات الأمريكية ليست مُلزمة أو مُطالبة بذلك.. ولا أظن أن ذلك صحيحٌ.. فالذى يملك سلطة الاتهام عليه تحديد هوية المتهم.. لا أن يُصبح هكذا فجأة اتهامًا لبلد بأسره بكل منتجاته وأغذيته ومشروباته..
فبالتأكيد، مقابل بائع الفراولة الفاسدة هناك من ليسوا فاسدين.. وإذا كان هناك من يروى بذور الحلبة فى مصر بمياه المجارى الفاسدة. فهناك غيرهم يروون بذور الحلبة بمياه النيل النقية.. ومقابل كل تاجر أو مزارع أو صانع فاسد معدوم الضمير على استعدادٍ لقتل أى أحد مقابل حفنة دولارات.. هناك آخرون يربحون من تصدير حاصلاتهم ومنتجاتهم ويسعون ويجتهدون للمحافظة على أرباحهم وثقة المجتمعات والبلدان الغريبة فيها وفيهم.. والذى سيُطالبنى بأن تقوم السلطات المصرية بهذا الدور وليست السلطات الأمريكية.. أقول له إن ذلك لن يحدث على الأقل فى المستقبل القريب.. والسبب ثقافتنا العامة والصحفية التى لاتزال تلزمنا حتى الآن بأخبار من نوعية مطعم شهير يقدم أغذية غير صالحة للاستخدام المحلى.. سوبر ماركت يبيع سلعًا منتهية الصلاحية.. ضبط كبابجى يستخدم لحوم الحمير والكلاب.. تسمم فى أحد المدارس نتيجة غذاء فاسد قدمه أحد الموردين.. عصير تنتجه إحدى الشركات الشهيرة تم اكتشاف الحشرات فيه.. وعشرات العناوين من دون أى أسماء أو تحديد.. باب واسع للحكايات واختلاق الاتهامات والقصص والحكايات أو حتى تصفية الحسابات.. وحتى يأتى يومٌ تتغير هذه الثقافة.. ويصبح الاتهام محددًا ومسئولاً لا يكتبه صحفى إلا بعد تقصّى الحقيقة كاملة بأوراقها ومستنداتها.. أطالب الزميل العزيز باراك أوباما رئيس التحرير الجديد بتطبيق هذه السياسة التى يملكها ويقدر عليها الإعلام الأمريكى.