(نقلا عن مجلة فنون)
وقال له: “شغلك مع الثلاثي بوظك يا حسين”.
دي جملة قالها محمد عبد الوهاب لـ حسين السيد، وسمعتها من حسين شخصيا في حوار معاه لـ التلفزيون، وكان معناها إن شغل الشاعر الوهابي الأصل اتأثر سلبا بـ تجربته مع ثلاثي أضواء المسرح، وبدأ قاموسه يتسرب له مفردات “مش مناسبة” لـ اللي بـ يغنيه عبد الوهاب، نتيجة إنه بـ يكتب لـ الثلاثي وهو سايب إيديه على كل المستويات.
لو صح الحوار ده، يبقى محمد عبد الوهاب مكنش يعرف “صاحبه” كويس، أو خلينا نقول ما شافش منه غير وش واحد، وإنه ما اهتمش كفاية بـ كل وشوشه، وبـ إنه مالوش منطقة معينة في الكتابة ينتمي لها، علشان يخرج منها، حسين أساسا كان “جي فـ أي حاجة” من الأول لـ الآخر، ودي مش حاجة سيئة، على الأقل بـ النسبة لنا هنا، والله أعلى وأعلم.
أساسا، هو كان عايز يدخل عالم الفن من باب التمثيل، ومشهورة حكاية لقاؤه بـ عبد الوهاب، لما كان رايح مسابقة لـ اختيار ممثلين علشان فيلم “يوم سعيد”، وكان متوسم فـ نفسه إنه شاب حليوة، شنبه مسمسم، فـ ينفع يعني.
في الاختبار لقاهم بـ يتكلموا عن حتة فـ الفيلم فيها غنوة، فـ قال وماله، لو ما نفعناش فـ التمثيل، نكتب أغاني، ومش معروف إذا كان قبل كده له تجارب في كتابة الغنوة ولا لأ، المؤكد إنه ما دخلش “سوق الأغاني”، لكن هل كتب مع نفسه ولا لأ؟ مش واضح، وأغلب الظن إنه لا.
عبد الوهاب، لما لقاه كتب الغنوة حلو، وهي “اجري اجري”، فـ بـ عين الصقر الفني، اللي بـ تعرف تقتنص المواهب والفرص، قال له: سيبك من التمثيل، وركز في كتابة الأغاني، ولـ إنه “جي في أي حاجة” وافق، لكنه في نفس ذات الوقت ما بطلش يحلم بـ السيما، وكان له محاولات قليلة في التمثيل، ما كملتش، فـ حب فترة يجرب الإخراج، واشتغل مساعد مخرج مع حسين فوزي، وبرضه ما كملش المشروع، كان واضح إنه مكتوب عليه يألف أغاني، وكان الله يحب المحسنين.
فـِ الأغاني بقى، حسين السيد كتب كل حاجة وأي حاجة، وفـ كل مرة، وفـ كل منطقة يكتب منها، كان بـ يبقى عارف بـ الظبط، إيه التأثير المطلوب إحداثه، وبـ يشتغل عليه بـ الظبط، لا يزيد كلمة ولا يخس كلمة.
أغنياته مع عبد الوهاب، كانت تناسب عبد الوهاب وتجربته كـ دون جوان رومانتيكي بـ مقاييس التلاتينات والأربعينات، فـ كانت معاني أغانيه كلها بـ تدور في إطار القاموس الحساس لـ الطبقة اللي بـ يمثلها الأفندي المتعلم، اللي بـ يقرا قصص عبد الحليم عبد الله وأشعار شوقي ورامي، ويحب بـ طريقة “عشق الروح مالوش آخر”.
لكن حتى جوه تجربة عبد الوهاب، وقبل ما نطلع براها، لما يبقى المطلوب مثلا إنه يعمل دويتو دمه خفيف، فـ يبقى “حكيم عيون”، الدويتو الشهير في فيلم “رصاصة في القلب”، وما أتصوره إن تمسك عبد الوهاب بيه كان ده أهم أسبابه: الدقة في تحقيق المطلوب.
بره عبد الوهاب كـ مطرب، سواء ألحان عبد الوهاب أو غيره، اشتغل حسين السيد في مساحة شاسعة جدا، يعني لما محمد فوزي يحب يعمل أغنية أطفال، تبقى “ذهب الليل” و”ماما زمانها جاية” حسين السيد. عايزين أغنية لـ الأم، فـ تبقى ست الحبايب، لما تظهر نجاة، يبقى” آه لو تعرف” و”عاليادي” و”القريب منك”، صباح تحب تسلم على مصر، فـ يبقى “سلموا لي على مصر”، محمد رشدي يطلع بـ الغنوة الشعبية، فـ تبقى “كعب الغزال”، شريفة فاضل تغني غنى “الليل”، فـ يبقى “حارة السقايين”، الغرض، إنه مش بس ثلاثي أضواء المسرح اللي عالمهم جذب حسين السيد، وعبر عنه، ده داس الأغنية بـ الطول والعرض والارتفاع.
الغنوة اللي نحب نقف قدامها كتير في مسيرة حسين السيد، أو خلينا نقول أوبريت، “اللي يقدر على قلبي”، اللي اتغنى في فيلم “عنبر” (أنور وجدي، 1948)، اللي هو إحنا مش قدام غنوة، وإنما قدام ما يشبه التحليل الاجتماعي لـ الطبقة الوسطى في الأربعينات، مكوناتها، وسمات كل مكون منها، وصياغة دقيقة لـ قاموس كل مكون منهم:
الوارث: “أهو أنا أهو أنا”
العصامي: “قنيت م الفول والطعمية أربع عمارات”
الموظف: “قيمة ومركز ووظيفة ميري”
الشامي: “جيتك من آخر لبنان”
في الأوبريت ده، كل واحد بـ يعبر عن نفسه، ويوضح إيه الميزة اللي يتحب علشانها، فـ نلاقي إن أكترهم رومانيكية هو ابن البلد الشعبي، اللي بـ يتكلم بـ أعلى درجات المجاز، في حين يبالغ الموظف في إنه “لا حول له ولا قوة” اللهم إلا ضمانة المركز وانتظامه، مع سنة هطل متوقعة في الشخص الوارث، و”مُحن” لبناني اللي نفسه تصير هي ليلى، ويصير هو المجنون.
عاش حسين السيد كل الحالات على مدار تلات عقود: الأربعينات والخمسينات والستينات، ولما جت السبعينات حمل المثقفين أغنيات حسين السيد مسئوليات الانهيار الحاصل، من غير ما تثار حملات ضده هو شخصيا، لكن في كل حتة حصل هجوم، كنت تلاقي حسين السيد.
أغنية “فاتت جنبنا” مثلا، خدت نصيب كبير من الهجوم بـ اعتبار إن سكة عبد الحليم كده “جابت آخرها”، ولما كان أي حد وقتها يحب يكتب عن ضرورة مساندة موجات الغناء الجديدة أو البديلة أو المختلفة (الفرق الغنائية أو محمد منير أو علي الحجار) كان يضرب المثل بـ “فاتت جنبنا” بـ اعتبارها نموذج شيخوخة أغنية الخمسينات والستينات ووصولها محطة الركاكة.
لما حد كان بـ ينتقد مثلا تدهور الأغنية الوطنية، كانوا يشاوروا على أغنية “عيش حياتك بس ابحث عن ذاتك”، اللي هي متاخدة من عنوان كتاب السادات الشهير “البحث عن الذات”، أو لما حد كان يتكلم عن انهيار الأغنية عموما، كان يتكلم عن فوازير التلفزيون اللي كان بـ يكتبها حسين السيد.
بـ اختصار، إحنا قدام شاعر شال الغنوة بـ حلوها ومرها وخيرها وشرها وصعودها وانهيارها أكتر من أربعين سنة، لـ حد ما ربنا افتكره، عقبال الناس ما يفتكروه.