النجاح صدفة ولا يأتي الفشل في غفلة منا، لكل قصة نجاح أو فشل أسباب، يدركها البعض مؤخراً بعدما تقع الواقعة، وطالما كان هناك حياة فهناك فرصة للنجاح، أو على الأقل اجتناب الفشل أو تقليص فرص تَحَقُّقِه مرة أخرى، النجاح والفشل لا يرتبط بالعلاقة العاطفية أو بالتفوق الدراسي فقط، ولا يقتصر على الحياة العملية أو الأسرية، كل شىء في حياتنا نقدر على تقييم مستوى نجاحه أوفشله، حتى الصحة تخضع لمقياس نجاحنا أو فشلنا في الحفاظ عليها.
ولأنه كما قلت سابقاً أن للنجاح والفشل أسباب، فنجاحنا بالمحافظة على الصحة يخضع لعوامل عدة من أهمها، العادات الغذائية والقدرة المادية، وحتى بعد اكتشاف المرض يظل هذان العاملان ضروريين لنجاح العلاج، ولن أسترسل هنا فالمقال غير طبي.
قد يقول قائل: “أن الحذر لا يمنع القدر” ، وهذا صحيح ولكن بعد الأخذ بالأسباب، وهو إجراء التحاليل الطبية الدورية والتي تختلف حسب الفئة العمرية، وبها قد نكتشف المرض في مراحله المبكرة، فقد تعلمنا أن الوقاية خير من العلاج، قال لي يوماَ أحد الأطباء الذين زرتهم أثناء مرضي : “لو بتهتم بصيانة سيارتك في المواعيد المحددة فصحتك أولى أن تهتم بها” ..
أعتقد أننا جميعاً لاحظنا في الآونة الأخيرة انتشار مرض الفشل الكلوى، يكاد ألَّا تخلو عائلة من مريض يعاني منه، ونعلم جيداً، أن جميع الأمراض أصبح علاجها يمثل عبئاً كبيراً على المرضى، خاصة البسطاء منهم، يتزايد يوماً بعد يوم، مع ارتفاع الأسعار وثبات الدخل، ولو زرت أو اطلعت على أوضاع المستشفيات الحكومية أو كان لديك صديق طبيب تستطيع التأكد من ذلك.
ولكن إذا ما توقفنا عند مرضى الفشل الكلوي، وبرغم خطورة المرض إلا أن الشعور النفسي الذي يصيب المريض عند تلقيه خبر المرض، والذي يختلف من مريض لآخر، يصبح عاملاً مهماً جداً في مستقبله المرضي سواء بتجاوز الصدمة وتقبل العلاج الوحيد لذلك وهو الغسيل الأسبوعي أو بتدهور حالته، ولا علاقة هنا بين العامل النفسي للمريض وبين مستواه المادي، ولكن قد يكون هناك علاقة للعامل النفسي للمريض بمستواه الثقافي ومدى معلوماته عن المرض وطرق العلاج وبالطبع الحالة المادية كما سيتضح فيما بعد.
في العادة لا ينتبه لذلك أهل المريض ربما لجهل منهم، أو لوقع الصدمة عليهم أيضاً، ولا يهتم بذلك كثير من الأطباء وقد يكون لهم العذر لكثرة أعداد المرضى الذين يستقبلونهم يومياً، ولن أتعرض هنا للعلاج بزراعة الكلى، فهو يحتاج إلى قدرة مادية عالية بالإضافة للبعد القانوني وأمور كثيرة أخرى.
كثير منا لمس معاناة المريض سواء مع صديق أو قريب أو جار، وقد أصبحت تكلفة الغسيل الكلوي للطبقة الوسطى مكلفة جداً في ظل غلاء جميع الأسعار وثبات الدخل، مما دفع الكثير من المرضى إلى اللجوء للمستشفيات الحكومية أو الجمعيات الخيرية التي تقدم العلاج مجاناً، ولكن لازدياد أعداد المرضى ومحدودية أعداد أجهزة تلك المستشفيات والجمعيات أصبح هناك طوابير طويلة في انتظار دورهم في الغسيل.
مهم جداً أن ندرك ويدرك مرضى الفشل الكلوي وذويهم، أنه مرض مثل أي مرض غير خطير وغير مميت إلا إذا أهملنا في علاجه، وقد يمد الله في أعمار المرضى عشرات السنوات، إذا ما انتظم المريض على الغسيل الدوري و القيام بالتحاليل الدورية الأسبوعية منها والشهرية لمتابعة الحالة الصحية العامة للمريض، وبالفعل رأينا حالات كثيرة عاشت لعشرات السنين معتمدة على الغسيل وحالات أخرى لم تتعدَ السنة.
أكتب ذلك بعدما قادتني الصدفة للتعرف على طبيب يعمل بتلك المراكز الطبية والتي شرح لي أسباب كثيرة لتدهور الحالة أو استقرارها، وقد استوقفني سبب أراه مزعجاً جداً وقد لا يعرفه الكثير من المرضى أو أهلهم وأحيانا كثيرة لا يخبرهم أيضاً الطبيب بذلك سواء في المراكز الحكومية أو الخاصة، وسبب التدهور هو حدوث مضاعفات نتيجة الغسيل تتمثل في نقص الهيموجلوبين في الدم مسبباً حالة فقر دم شديد، وبالطبع يشعر معها المريض بالضعف المتزايد، ثم هبوط بالدورة الدموية والوفاة.
وللأسف لا يستطيع الطبيب بالمركز برغم تأكده من تدهور نسبة الهيموجلوبين بالدم للمريض تقديم أي مساعدة، فالمستشفى لا تقوم بصرف الحقن التي تعمل على تعويض نقص الهيموجلوبين، إلا عند وصول نسبة الهيموجلوبين إلى سبعة وهي نسبة متدنية جداً، فعدد الحقن الخاصة بزيادة نسبة الهيموجلوبين محدود جداً لا يكفي عدد المرضى إذا ما عرفنا أنه يحتاج لجرعة أسبوعية، تكلفة تلك الجرعة شهرياً في حدود ألف ومائتين جنيه.
حين زرت أحد المراكز العلاجية المجانية، وأبديت رغبتي في تبني حالة من المرضى، صرح لي الطبيب أنه لا يستطيع ذلك، لأنه لا يمكن أن يحتفظ بالعلاج لمريض محدد وهناك غيره يحتاج نفس الجرعة، والنتيجة أنه من الممكن جداً برغم تبرعي لن أضمن أن تتحسن حالة المريض لعدم انتظام تناول الجرعة المطلوبة، وعندما اقترحت عليه أن يتسلم المريض علبة الحقن ليتناولها عند الغسيل أسبوعياً، قال : “أن ذلك قد يكون صحيحاً مع المريض الواعي والمستور، أما المريض المعوز
فقد يلجأ للأسف لبيعها” !!
عند باب الخروج لمحت امرأة في الثلاثينيات، ملامح القهر والفقر واضحة عليها، يستند إلى ذراعها اليمين زوج شاب هزيل يترنح، وبرغم حرارة الجو كانت ملابسه ثقيلة، تَمْسِك بيسارها طفلاً ممسكاً بأخته الأضغر منه، تتبعتهما حتى وقفا منتظرين مصعداً لم يهبط، فجاهدا للدور الثالث حيث غرف الغسيل حتى اطمئنت عليه وعادت أدراجها للدور الأرضي تجلس أمام مدخل المبنى، وطفلاها يلهوان أمامها، فاقتربت منها وعرفت منها أن زوجها مريض منذ ثلاث سنوات وأن عمله السابق كان سائق ميكروباص، والآن ليس لهما أي مصدر دخل، قائلة “نذهب لبيت أبيه مرة في اليوم، نتناول عندهم وجبة واحدة وباقي اليوم حسب التساهيل، زي ما ربنا يِبْعَت” ..
وحين مددت إليها يدي بالمساعدة رفضت أن تستلم أي مبالغ، فبمَ تخبر زوجها ؟! قائلة : “هيبهدلني .. خد رقم محموله واتصرف معاه” ..
كنت أود أن أسألها هل له معاش من التأمينات الاجتماعية أو من نقابة السائقين ؟!
فلم أفعل .. فأنا نفسي لا أعلم إذا ماكانت هناك نقابة لهم ترعى تلك الحالات !
كدت أن أنهي المقال ولكن في اليوم الثاني، وبعد صلاة الجمعة، التقيت بطبيب صديق، سألته عن كل ما كتبت أعلاه، للأسف أكده وزاد أن هناك نقصاً أيضاً في محلول الملح، ولهذا قصة طويلة، فالشركة (قطاع خاص) التي كانت تورد للمستشفيات بنسبة 70% من احتياجاتها، قد توقفت عن التوريد بسبب اختلاف الأسعار، وأنها تقبل أن تدفع غرامات لعدم التوريد عن أن تورد بخسارة !!
هل نسمع قريباً عن تدخل القوات المسلحة بتصنيع محلول الملح ؟!
أعترف أني كنت على درجة من السذاجة حين اعتقدت أن بعد 25 يناير لن نرى تلك الصور، وستختفي حملات جمع التبرعات وستكون من أولويات الدولة الصحة والتعليم، ولكن يبدو أن هناك من هم أقوى من الدولة يقفون عائقاً أمام ذلك..
عزيزي المُزّكِّي .. (الصحة أولى لك فأولى..)
إلى مقال آخر مع الفشل..
نرشح لك : علاء الدين العبد يكتب: بعيدا عن السياسة (2) حصة التعبير