نقلاً عن “المصري اليوم”
بداية من فترة الستينيات وحتى منتصف التسعينيات كانت الريادة الإعلامية شبه محسومة لصالح الإعلام المصري، وكان ماسبيرو ببرامجه ومسلسلاته وأفلامه ضيفًا دائمًا على كل بيت عربي.
وعلى مستوى الصحافة المطبوعة لم يكن الحال يختلف كثيرا، وأعداد صحيفة الأهرام كانت يتم تبادلها في البيوت العربية ككنز ثمين، وبداية من التسعينيات ظهرت بوادر واضحة تؤشر على أن الصحافة المصرية آخذة في الانغلاق على نفسها؛ في الوقت الذي وجدت فيه الصحافة اللبنانية بالتمويل السعودي عبر صحيفتي الحياة والشرق الأوسط طريقهما لتبرزا كمنبر إقليمي شبه وحيد.
ورغم تراجع توزيعهما وانحصار تأثيرهما الحالي لكن مازالت االمطبوعتان الإقليميتان اليوميتان الأكبر، وفي السابق كانت هناك محاولات مصرية جاءت متأخرة ومتخبطة بعد سنة 2000 لإطلاق طبعات عربية من صحف محلية (الأخبار والأهرام)، وسرعان ما فشلت التجربة.
وبهذا خرجت مصر مبكرا من سوق الصحافة العربية الإقليمية.
*****
سبتمبر 1991
انطلقت أول قناة عربية فضائية خاصة من لندن، تحت اسم تليفزيون الشرق الأوسط التي عرفت لاحقا اختصارا بـ«mbc»، كان تركيزها في البداية على الترفيه -ومازال- مستفيدة من الرصيد المصري الضخم من الدراما والأفلام وأيضا النجوم والمشاهير.
بينما كانت خدماتها الإخبارية قليلة وتقدم على استحياء، وكان نواة فريقها الأول مكون من الكفاءات المصرية واللبنانية وأيضا الأردنية، والجنسيتين الأوليتين يمثلان حتى الآن النسبة الأكبر من العاملين والمديرين.
وقتها، لم يكن يخطر على بال مؤسسي هذه القناة الوليدة أنه سيأتي يوم وينافسون فيه التليفزيون المصري العملاق، فضلا أن يزيحوه عن عرشه، بل ويأتي يوم ويعرضوا فيه خدماتهم وخبراتهم لإنقاذه!
كان مجرد التفكير في هذا السيناريو وقتها ضربا من الخيال.
لكن العمل الجاد لا يعرف المستحيل، وفي المقابل التخطيط السيئ والقيادة الفاشلة له فعل السحر؛ فأخذ مؤشر تأثير وانتشار التليفزيون المصري يضمحل ويتراجع مع بداية الألفية الجديدة، في ظل التركيز على التوسع الإنشائي وتبنى مفهوم الحجر لا البشر- كشعار المرحلة- بإطلاق أقمار صناعية ومنشآت إعلامية دون تخطيط لتطوير المحتوى وتدريب أهله، فتسربت الكفاءات الإعلامية المصرية، وأصبح الملعب خاليا.
ومع التمويل السعودي الذكي، والشطارة اللبنانية المعروفة، والكفاءات المصرية التي أصبحت تؤتي أكلها خارجا، حدثت المعجزة، واستطاع تليفزيون الشرق الأوسط أن يتوسع ويتربع.
وهذا الشهر يحتفل بمرور 25 عاما على تأسيسه، واستحواذه وحده على حوالى 60- 70% من سوق إعلانات الشرق الأوسط التليفزيونية، وهو رقم ضخم يتجاوز بالتأكيد المليار دولار.
*****
والآن لدي «mbc» عشرين قناة بأربع لغات، وضعف هذا العدد علامات تجارية، يدير كل ذلك 3000 إعلامي، مقارنة بـ40 ألف موظف في ماسبيرو، منهم 4 آلاف موظف أمن!. مرتباتهم جميعا تتجاوز 220 مليون جنيه شهريا، يخرجون 23 قناة، و56 محطة إذاعية، ويحققون خسائر سنوية تصل إلى 4 مليارات، وإجمالي الديون 20 مليار جنيه.
ورغم وجود حالة من الانتعاش الفقاعي في الإعلام المصري الخاص في العشر سنوات الماضية، ولكنها لم تتجاوز أبدا محيطها المحلي، بل باتت جميعها الآن دون استثناء تالية، وانتزع منها ببراعة المركز الأول، وأين؟ في سوقها المحلية. التي تعد ثاني أكبر سوق عربية بعد السعودية، والأولى من حيث وفرة عناصر المحتوى.
وعلى المستوى الإقليمي لا توجد حاليًا أي قناة مصرية خاصة أو حكومية في قائمة الأكثر انتشارا أو تأثيرا أو الأحدث بمعداتها وتقنياتها، بينما يتربع على السوق الإقليمية، ربحا/ تأثيرا مجموعة mbc، ثم مجموعة الجزيرة، وخلفهم بمسافة وإن كانت بدأت تتقلص مؤخرا مجموعة قنوات أبوظبي، وقنوات دبي.
ووفقا للوضع الراهن، فالإعلام- لا الإعلاميين- في مصر خارج دائرة التواجد أو التأثير الإقليمي فيما يتعلق بالقنوات التليفزيونية؛ والمنافسة شرسة، ومكلفة، والمؤشرات الاقتصادية تقول إنه يصعب على السوق المصرية في ظل إمكانياته أن يعود سريعا للمنافسة الإقليمية؛ خاصة أن أجيال الملينيوم العربية، ليست مرتبط كثيرا بالدراما المصرية، ومباريات برشلونة والريال مانشستر هي شغفهم وليس الدوري المصري الهزيل.
*****
بداية الألفية الجديدة
خرجت للأفق مجموعة من المواقع الإلكترونية العربية الواعدة، أغلبها كانت نتيجة جهود مستقلة بعضها من قبل الإنترنتيون العرب الأوائل، مثل: مكتوب، إيلاف، محيط، نسيج، إسلام أونلاين، مصراوي، التحرير نت، كان الوضع مبشرا جدا، وأزمة فقاعة الإنترنت dotcom boom الشهيرة أصابت أمريكا وقاربت على الانتهاء، ولقنت الجميع درسًا قاسيًا.
وكان منطقي أن تتعلم المواقع العربية منه في وقت مبكر من تأسيسها، ولكنها للآسف صارت على نفس الدرب بحذافيره، فضخت الكثير في سوق لم تتشكل بعد، فعانت كثيرا، وبعضها توقف أو تراجع مثل نسيج وإيلاف وإسلام أون لاين.
وبعضها تم بيعه مثل مصراوي لصالح شركة أوراسكوم عام 2003 تقريبا، ومكتوب لصالح موقع ياهو الإمريكي، والصفقة الأخيرة كانت ومازالت الأكبر، وبلغت 175 مليون دولار في 2009.
وفي كل هذه المراحل، ومنذ بداية الألفية وحتى الآن استمرت الريادة الإنترنتية الإقليمية فيما يخص المحتوى الإعلامي متذبذبة وغير محسومة، مواقع تظهر وأخرى تختفي مثل: بي بي سي العربية، والجزيرة دوت نت، والعربية، وإم بي سي، ومؤخرا سكاي نيوز وهافنجتون بوست، لحق بها مؤخرا بعض المواقع الصغيرة التي تعتمد استراتيجية Micro Targeting، وجميعها عينه على مستخدمي الإنترنت، والذي يتجاوز عددهم حاليا 150 مليون مستخدم، حسب أرقام الاتحاد الدولي للاتصالات.
وفي كل المراحل السابقة لم يزاحم أي موقع مصري محيطه العربي!
ولكن الفرصة مازالت سانحة.
فميزة سوق الإنترنت (خبريا، وترفيها، وخدميا) أن الكرة مازالت في الملعب، ولم يحرق مثل ملعب الصحافة المطبوعة الآخذ في الانزواء؛ ولا مثل ملعب التليفزيون المحسوم لحساب كيانات ضخمة مازالت تعيش نشوة التربع على العرش، وأغلب رؤوسهم حريفة ولكن ليس في ملعب الإنترنت.
يستثنى من ذلكmbc التي تسعى بجدية للحفاظ على عرشها التليفزيوني وتحافظ على فرص البقاء رقميا في المستقبل عبر مجموعة خدمات، أبرزها شاهد دوت نت، كأول منصة محتوى مدفوع في المنطقة، وإن كان تركيزها الأكبر مازال على التليفزيون. ومن ناحية أخرى تواجه تحديا كبيرا للتعامل مع ضغوط سعودة الإدارة والمحتوى، ومؤخرا ظهر تأثير ذلك بوضوح على المحتوى الخبري أكثر منه على الترفيهي، والأخير مازال نقطة تميزهم الرئيسية.
ورغم تراجع قناة الجزيرة الإخبارية شعبيا بصورة دراماتيكية، لكن المجموعة بشكل عام غيرت من جلدها قبل فترة، وبدأت تسعى للتواجد في ملعب المحتوى الترفيهي عبر قنواتها الترفيهية beIN؛ ورقميا أطلقت مشروع AJ+ الضخم في كاليفورنيا، وحقق محتواه على الإنترنت في عام وأحد أكثر من 2 مليار مشاهدة، نعم الرقم صحيح!
وحسب الواقع المعلن، للآسف لا نرى أي مبادرة رقمية مصرية جادة للدخول في سوق المحتوى العربي الإقليمي، والمنافسة الحقيقية حاليا بين السعودية وقطر والإمارات، سعيا للاستحواذ على كعكعة الإنترنت بما فيها من مغانم سياسية قبل أن تكون اقتصادية.
*****
ربما لاحظتم أنني عرجت سريعا على الصحافة المطبوعة، وهذا صحيح.. لأن لا الدولة ولا الناس ولا المستثمرين، ولا حتى القائمين على إدارات تلك الصحف يهتمون؛ ويبدو أنهم استسلموا لمصيرهم المحتوم، ولا تظهر في الآفق أي بادرة تلوح بأن شيئا قريبا سيتغير لينقذهم، أو حتى يؤخر القدر الذي بات محتوما.
*****
سبتمبر 2016
سوق الصحافةالمطبوع مصريا قبل أن يكون إقليماخف تأثيره وقل توزيعه.
القنوات التليفزيونية هو الوسيلة رقم واحد الآن محليا وعربيا، لكن المستقبل دون شك للإعلام الرقمي.
سوق الإعلام في مصر يعيد تنظيم نفسه، جلبة وضجة في كل مكان، التركيز فقط على ملعب التليفزيون، النظرة محلية بامتياز مع بعض الدردشات الوديةعن التوسع الإقليمي، في ظل غياب كامل لرؤية رقمية محترف أو حتى شبه محترفة.
ويبدو جليا أن الأمور تسير بحماس شديد في طريق أحادي التفكير والقرار، لصنع نموذج مهجن يجري تسويته على عجل مؤلف من منظومة تخلط اعلام الستينيات مع لمحات من زمن 2016.بما يمخض لمخلوق فرنكشتايني غريب الأطوار يسعى للسيطرة على كامل المشهد، تقف خلفه بعضه ملامحه نوايا تبدو صادقة، لكنها محاطة بأفكار معتقة، ومصير مسدودمسدود يا ولدي.