الذين يريدون إراحة ضمائرهم اجتهدوا فى تفسير ما جرى من إذاعة حوار قديم للرئيس السيسى _ بدلا من حديثه الجديد لقناة PBS الأمريكية على هامش مشاركته فى الاجتماع ال ٧١ للأمم المتحدة _ على أنه من فعل الخلايا الإخوانية الشيطانية النائمة فى ماسبيرو، فى رغبة منهم لإنهاء الأزمة، على اعتبار أن الناس تلتمس الأعذار وتبرر الفشل إذا قلنا أن وراءه إخوان أو متعاطفون معهم، وهى وسيلة لا يزال كثيرون يستخدمونها للإفلات من العقاب، وتقديم أنفسهم للرأي العام على أنهم ضحايا.
لا أنكر أن ماسبيرو لا يزال يعانى من اختراق الاخوان له ليس عقب السنوات التى توالت بعد ثورة يناير، ولكن حتى خلال سنوات مبارك، فهؤلاء الأوغاد لم يعدموا حيلة أبدا للتسلل الى كل مؤسسات الدولة، فى انتظار لحظة التمكين، التى أمسك بها الشعب المصرى وحرمهم منها بثورة عظيمة فى ٣٠ يونيو، لكن ليس معنى ذلك أن نتعامل مع أشباح الاخوان المخفية فى غرف المبنى العجوز، على أنهم القوة الجبارة التى تقف وراء الأخطاء المهنية الفادحة التى وقع فيها جنرالات ماسبيرو.
الأمر يحتاج إلى مواجهة حاسمة، وعلينا أن نضع منطق الطبطبة جانبا، فهو لن يجدى شيئا.
تحدثوا عن الأمكانيات المادية والبشرية الهائلة التى يمتلكها ماسبيرو، قولوا فى حق العاملين فيه ما تشاءون عن خبرتهم ووطنيتهم وقدرتهم على الإبداع، دافعوا عنهم وقولوا أنهم يعملون تحت ظروف سيئة للغاية، بل مدوا الخط على استقامته، وقولوا أن هناك مؤامرة على ماسبيرو، يخطط أصحابها لتصفيته تماما، لكن هذا لا يجعلنا ننكر أننا أمام جهاز إعلامى تحول إلى عبء على الدولة المصرية.
لن أنشغل كثيراً بأعداد العاملين الخرافية فى الجهاز العتيق، فمؤسسات الدولة جميعها تضم آلافا من العاملين دون حاجة حقيقية لهم، ولن أتحدث عن المليارات التى يحصلون عليها كل عام، لأن العاملين فى مؤسسات أخرى يحصلون على مليارات أيضاً دون أن يقدموا شيئا له قيمة، وأعتقد أننا لو تحدثنا بلغة الأرقام فلن نصل الى مرفأ آمن.
ما يشغلنى على وجه التحديد هو: هل الدولة المصرية فى حاجة الى ماسبيرو كجهاز إعلامى يمكن أن يلعب دورا فى مرحلة حرجة نعيشها جميعها، التحديات فيها تتصاعد، والمواجهات مع خصوم معلنين ومخفيين لا تنقطع، والحرب الإعلامية على الشعب والنظام تتطور يوما بعد يوم؟
هل يستطيع ماسبيرو بقنواته الكثيرة أن يصبح رأس حربة فى الدفاع عن وطن يخوض حربا القلب فيها إعلامى؟
هل يقدر على تقديم رسالة إعلامية احترافية وناضجة، يستطيع من خلالها أن يجمع شتات الشعب ويحميه من الحملات الإعلامية التى تقوم على الشائعات والأكاذيب مستهدفة هزيمته وضرب روحه المعنوية فى مقتل، تمهيدا للانقضاض عليه والانتقام منه؟
هل يمكنه أن يقدم خطابا بديلا لخطابات اليأس التى تسيطر على المجال العام فى مصر؟
هل يمكن أن يكون المصدر الأول للأخبار، فيحظى بأذن وانتباه المواطن المصرى، منقذا له من الوقوع أسيرا فى شباك قنوات ووسائل إعلامية أجنبية، لا يمكن أن ننكر خبثها ومكرها ورغبتها الملحة للإضرار بمصر وأهلها؟
قولا واحدا، لا يستطيع ماسبيرو بكل من فيه ان يقوموا بهذا الدور، والتجربة حاكمة بيننا وبينهم، فقد كانت أمامهم فرصة هائلة. بعد ٣٠ يونيو، أن يكونوا جهاز الدولة المصرية الاعلامى الأول.
لدينا قناة دولية هى النيل تى فى، ولك ان تسأل عما قدمته لتصحيح الصورة الملتبسة التى صاغها الاخوان عن مصر فى الخارج، وسيكون الجواب لا شئ.
ولدينا قناة النيل للأخبار، وقبل أن تسأل عما فعلته فى مواجهة الحرب النفسية على الرأى العام المصرى بهدف زعزعته وتشويشه وهز ثقته بقيادته؟ ، سأقول لك لا شئ أيضا.
بل إذا سألت عما قدمته قنوات التليفزيون كلها لملء فراغ المجال العام وإدارة نقاش حر ومفتوح عن أزمات مصر وسبل الخروج منها؟ ، فلن تعثر على شئ ذى قيمة.
لست من هواة جلد الذات، ولا إلقاء التهمة فى وجوه الآخرين، ثم أركن بعيدا لأرقب المشهد من بعيد، ولذلك لابد من الحديث عن أسباب حالة التردى الهائلة التى وصل اليها ماسبيرو، ولا أريد أن اقول أن ما وصل اليه هو انحطاط مهنى كامل، رغم ان ما وصل اليه هو كذلك بالفعل.
الأزمة الحقيقية التى يعانى منها ماسبيرو الآن أن الموظفين يحتلونه بشكل كامل، لا مكان فيه لإعلاميين محترفين ولا مبدعين قادرين على تقديم اعلام مختلف، الموظف هناك يبحث عن ترقية أو علاوة أو حافز، ولأن هذه هى الروح التى تسيطر على الجميع، فلا مجال لعمل جاد، تتسع المساحة فقط للمؤامرات والدس وكتابة التقارير، فكل موظف يسعى لكسب رضا رئيسه، وهو سعى لا يخلو من النفاق، فترى المسئول فى ماسبيرو منفوخا بلا داعى، رغم أنه يعانى من حالة تجريف مهنى وإنسانى هائلة.
فى مبنى عجوز ومترهل مثل ماسبيرو، يأتى الاعلام فى ذيل الاهتمامات، وتأتى الرسالة التى يجب أن يقدمها فى قاع التخطيط ، ولذلك كلما قرأت عن مبادرة داخلية لإصلاح ماسبيرو، كنت أسخر من أصحابها، لان المبنى لا يحتاج الى إصلاح بل الى نسف كامل، لا أنكر ان هناك بعض المخلصين الذين يريدون خلاصا من المأزق الذى يعانى منه ماسبيرو، وهؤلاء قدموا مبادرات إصلاحية، لكنها تظل فردية من ناحية، ومن ناحية ثانية يتم إجهاضها، لأن المسئولين الكبار لن يسمحوا لأحد بأن يخرجهم، فهم لا يعملون ولا يريدون لأحد أو من أحد أن يعمل أيضا.
ستقول لى أن هؤلاء أنفسهم كانوا من يعملون فى ماسبيرو أيام صفوت الشريف وأنس الفقى، وكان المبنى منضبط، يعمل كالساعة، لم يختف بريقه أبدا، بل كان حاضرا فى الحياة المصرية حضورا ملحوظا.
لن أنكر عليك ما تقول، لكن الفارق بين ما جرى وما يجرى الأن، أن الموظف أيام الشريف والفقى كان منضبطا، يؤدى ما عليه تماما، أما الآن فالموقف ليس منضبطا على الاطلاق، فماسبيرو مثله مثل غيره من مؤسسات الدولة يعانى من حالة انفلات هائلة، لا أحد يحاسب ولا أحد يقبل الحساب من الأساس.
لم يفزعنى خطأ إذاعة خطاب قديم للرئيس، فهذا أمر متوقع من إعلاميين موظفين يعملون بلا روح، ولكن ما هالنى حقاً أن من أخطأوا خرجوا يدافعون عن خطأهم، ويتعجبون من هجوم الناس عليهم، وكأننا أمام محاولة لمنح الخطأ شرعية، واعتباره أمرا عاديا لا يجب أن يلتفت له أحد.
فارق آخر مهم بين ما جرى وما يجرى الآن فى ماسبيرو، فقيادات زمان كانت تعرف الدور المطلوب منها تماما، ولم يكن أحد منهم يقصر أبدا فيما يعرف انه دوره، أما الآن فنحن أمام قيادات ميديوكر، بلا قيمة ولا كاريزما ولا تاريخ.
لقد باردت صفاء حجازى رئيسة اتحاد الإذاعة والتليفزيون إلى إقالة مصطفى شحاته رئيس قطاع الأخبار، وهو يستحق الإقالة بالطبع حتى لو دافع عن نفسه وألقى بالتهمة على موظفيه الذين يجب أن يحاكموا أيضاً محاكمة جنائية وليست إدارية فقط، لكن لم يسآل أحد عن مسئولية صفاء حجازى نفسها عما جرى.
لو كانت قارئة النشرة السابقة تعلمت شيئا ممن عملت معهم خلال سنوات عملها الطويلة فى التليفزيون المصرى، لأدارت الأمور بطريقة تضمن عدم وقوع مثلا هذه الأخطاء، لكنها فيما يبدو متفرغة لتصفية خصومها، غارقة حتى أذنيها فى تفاصيل إدارية عقيمة، فلم نسمع أنها بادرت لوضع منظومة جديدة للنهوض بماسبيرو وبث الروح فيه، إنها أقرب إلى رئيسة اتحاد لتسيير الأعمال، وهى أعمال بائسة لا قيمة لها على الاطلاق، ولذلك كان يجب ان تقال من منصبها، فى رسالة واضحة الى أنه غير مسموح بالخطأ أثناء المعركة التى تخوضها الدولة، والمفروض ان الاعلام سلاحها الأول فيها.
لقد قامت الشئون القانونية باتحاد الإذاعة والتليفزيون بالتحقيق مع كل من لهم علاقة بالخطأ الفادح، وقامت أجهزة أمنية سيادية بالتحقيق مع كل من شكت فى علاقتهم بالأمر، استمرت التحقيقات لساعات طويلة، ثم لا شئ بعد ذلك.
كان من المفروض أن تنتهى التحقيقات فى أسرع وقت، وأن تعلن نتائجها على الفور، وأن يعرف الرأى العام من يقف وراء هذه المهزلة الكبرى، لكن يبدو أن الأمر سيمر كما مر غيره فى ماسبيرو، معاقبة موظفين صغار عقابا اداريا تافها، ولن يقترب أحد من المسئولين الكبار الذين يجب ان يكونوا عبرة، فالخطأ هذه المرة فى حق رأس الدولة، وهو بالمناسبة ليس الخطأ الأول، ولو كان هناك عقابا صارما فيما مضى من أخطاء، ما كنا وصلنا الى هذا الخطأ الكارثى.
سيحتج أبناء ماسبيرو على ما أقول، فلديهم ما يقولونه هم أيضا، إنهم يعلقون فشلهم على سماعة أن هناك من يعمل على خلق كيانات إعلامية بديلة، يجعلون منها لسان النظام الحاكم، وعليه فلا تهتم الدولة بهم، لأنها تدعم هذه الكيانات.
وحتى لو اعتبرنا أن هذا الكلام صحيحا، فلماذا وقف ماسبيرو والعاملون فيه موقف المتفرج مما يجرى على الأرض؟
لماذا لم يقدموا اعلاما جديدا يليق بالمرحلة الجديدة، لماذا حافظوا على جمودهم وتعفنهم، وواصلوا السقوط فى مستنقع التقليدية؟
لماذا اهتموا بشئونهم كموظفين ولم يحافظوا على وضعهم كاعلاميين نحسب لهم ألف حساب؟
إذا كانت هناك أجهزة فى الدولة تعمل جادة على إيجاد كيانات بديلة لماسبيرو فلديها كل الحق فيما تفعله، فلن تنتظر هذه الأجهزة أكثر من هذا على هزال جهاز اعلام الدولة الرسمى، لأن الحرب فى الميدان، والحرب لا تنتظر أحدا.
فالانتظار معناه الهلاك الكامل.
كانت أمام العاملين فى ماسبيرو فرصة هائلة لإحياء مبناهم العتيق، لكن الفرصة فعليا ضاعت، فلن يثق أحد بهم بعد ذلك، وإذا قالوا أن هناك من خطط لإفشالهم، فهم بأنفسهم من قدموا له الحجة والذريعة ليطيح بهم.
ماسبيرو الآن ليس الا كيانا ميتا، وإكرام الميت دفنه، بل ان دفنه الآن واجب وطنى، يجب أن تتقدم له الدولة وهى ثابتة الخطى، فلم يعد أمامنا وقتا نضيعه، فليقبع الموظفون فى كهوفهم يبحثون عن ترقية أو حافز آو علاوة، وليتركوا من يجيد الاعلام يبدأون طريقهم لتقديم رسالة إعلامية تليق بهذا الوطن.