حسين بافقيه يكتب: كلكم يطلب صيدْ - E3lam.Com

نقلاً عن صحيفة “القبس” الكويتية

 

لا أستطيع أن أفهم معنًى لكلمة «مثقَّف» بعيدًا عن البيئة التَّاريخيَّة التي وُلِدَتْ فيها، والسِّياق الَّذي درجتْ فيه، وأحسب أنَّ ذينك الأمرين مرجع كل من أراد تحقيقًا لهذه الكلمة الَّتي أضحتْ مِنَ الكلم الشَّائع في كلام النَّاس، يصفون بها كلّ مَن اشتغل بالأفكار، لكنَّهم قلَّما يتحقَّقون مِنْ مطابقتها لأصلها وحقيقتها، وكأنَّما كان «المثقَّف» عندهم هو مَن تحلَّى بجملة مِنَ العلوم والمعارف، أوْ ذلك الإنسان الَّذي لا يجيد إلا مهنة الكلام أو الكتابة في الصُّحُف والمجلات، أوْ كأنَّما حال شيوع تلك الكلمة الجديدة دون الوقوف على أصلها وفصلها.

نرشح لك: حظر كاتب سعودي انتقد وزير الإعلام

ومع ذلك فعامَّة النَّاس، مهما شاعتْ هذه الكلمة فيهم، ومهما صارتْ مِنَ الكلم المبتذَل- لا يزالون، كلَّما أَلَمَّ بهم حادث، يَفْزَعون إلى «المثقَّفين» يسألونهم الرَّأي، وينتظرون منهم «حلا» لتلك الكائنة الَّتي نزلتْ بهم، وكأنَّما أولئك النَّاس يُحسُّون في ضمائرهم أنَّ في «المثقَّفين» جانبًا «رِساليًّا» يجعلهم كالعلماء «ورثة الأنبياء»، في صُدُوعهم بالحقّ، وانحيازهم إلى الضُّعفاء، ومقاومتهم للظُّلم والعدوان، فإذا كان لهم ما راموه منهم فبها، وإنْ كانتِ الأخرى؛ خذلانًا ونكوصًا، نفض أولئك العامَّة أيديهم مِنْ ذلك «المثقَّف»، وأسفوا أنْ «خان» رسالته، وعَدُّوا ما اكتسبه مِنْ «علوم» و«معارف» وبالاً عليه.

 

◗ حادثة «دريفوس»

 
والعامَّة أدنَى إلى الأصل الَّذي اشتُقَّتْ مِنه كلمة «مثقَّف» في اللِّسان الفرنسيّ، حيث سُكَّتْ بيانًا لحال نفرٍ مِنَ المشتغلين بالمعارف والأفكار، وذلك الأصل وتلك النَّشأة لعلَّهما يومئان إلى «المعيار» الأخلاقيّ الَّذي كان أساسًا لنشأة هذا المصطلح في لسان الفرنسيِّين، ومِنْ ثَمَّ ألسنة أوروبِّيَّة أخرى intellectuel، وما كان حديثًا مُفَترى أنَّ كلمة «مثقَّف» سِيقتْ في أثناء حادثة الضَّابط دريفوس، عام 1894م، حين اتُّهِمَ –زورًا وبهتانًا بالتَّجسُّس لألمانيا –ففَزِع أهله وذووه إلى «الرَّأي العامّ» يستحثّه ويستنهضه، فلمَّا بلغ خبره نفرًا مِن أهل القلم، ولمَّا استيقنوا أنَّ الرَّجُل مظلوم، وأنَّه أُخِذَ بالباطل، لم ينكصوا، ولمْ يَقولوا: إنَّ الأمر لا يعنينا، فانبرى الرِّوائيّ المشهور إميل زولا، مِنْ فوره، وأنشأ مقالته ذات العنوان المثير «إنِّي أتَّهِم»، فزلزل الأرض مِنْ تحت أرجُل الظَّلَمة والطُّغاة، وما لبث أنْ ظهر «بيان» عليه تواقيع نفر مِنْ قادة الرَّأي في فرنسا، أعلنوا فيه وقوفهم إلى جانب الحقّ، وجعلوا يشنِّعون على الظُّلم وأهله، ويُلِحُّون على إعادة النَّظر في قضيَّة ذلك الضَّابط المظلوم، وحملتِ التَّوقيعات أسماء كوكبة مِنْ قادة الرَّأي، نعرف منهم أناتول فرانس، وأندريه جيد، ومارسيل بروست، ولوسيان ليفي برول، وربَّما كان مِنَ المهمّ أنْ نقرأ في تلك التَّوقيعات ما قرأه المفكِّر الفرنسيّ جيرار ليكلرك في كتابه «سوسيولوجيا المثقَّفين»، إذِ استجلبتْ نظره تلك الألقاب الجديدة في عالم الفكر، وأهمّها عبارات «مُجاز في الآداب»، أو «مُجاز في العلوم»، أو «حائز درجة الأستاذيَّة في الجامعة»، وما هي– كما يقول– حتَّى اتَّسعتْ دائرة المنافحين عن الحقوق والحُرِّيَّات، مِنْ تلك الطَّبقة الَّتي قدْ ندعوها «قادة الرَّأي»، أوْ «أهل القلم»، وكأنَّما صار الدِّفاع عن الحقوق والحرِّيَّات خصيصة مِنْ خصائصها الَّتي لا تنفكّ متَّصفة بها.

 
◗ بيان المثقفين

 
لمْ يُطْلِقْ أولئك الموقِّعون على أنفسهم اسمًا ما، فكلّ ما يعنيهم أن يَصْدعوا بالحقّ، وأن يهزُّوا ضمير المجتمع ببيانهم ذلك، وإنَّما أطلق خصومهم عليهم اسمًا جديدًا طازجًا وهو «المثقَّفون»، ودَعَوْا بيانهم – أو عريضتهم– «بيان المثقَّفين»، وهم إنَّما أرادوا بهذا الاسم الجديد الإزراء بهم، والتَّنقُّص منهم، لكنْ لم يلبثْ هذا الاسم أنْ دَلَّ على طبقة جديدة، لا تشبه غيرها مِنَ الطَّبقات، الجامعُ بين المنضوين تحتها أنَّهم كلَّهم مِنَ المشتغلين بالأفكار، والمعروفين بصنعة الكتابة، ولم يتركِ الخصوم كلمة منكرة إلا ألصقوها بأولئك النَّفر مِنَ المتعلِّمين وأساتذة الجامعات والأدباء والفلاسفة الَّذين لم يلزموا «الحِيَاد»، ولم يكونوا «لا مبالين» أوْ «مرجئين»، ولكنَّهم عبَّروا عنْ رسالة «المثقَّف» – هذه الكلمة الجديدة! – الَّتي ليس بمستطاع أحد، منذ ذلك التَّاريخ، أن يُخْرجها عن أصلها الأخلاقيّ، الَّذي تؤول إليه، وإنَّه لوْ فعل، فسيكون «خائنًا»! هذه الكلمة القاسية الموجعة الَّتي سَكَّ منها المفكِّر الفرنسيّ جوليان باندا، عام 1927م، عنوان كتابه «خيانة المثقَّفين»، فلا سبيل لأولئك الَّذين ندعوهم «المثقَّفين» إلا أن يَصْدُروا عن المعنى الأخلاقيّ الَّذي اقترن بنشأة هذا الاسم، ولا خيار للمتَّصف به، عند إدوارد سعيد، إلا أحد أمرين «إمَّا أن ينحاز إلى صفوف الضُّعفاء، والأقلّ تمثيلاً في المجتمع، ومَن يعانون النِّسيان أو التَّجاهُل، وإمَّا أن ينحاز إلى صفوف الأقوياء».

 
◗ نزاهة مثقف

 
وأنا على يقينٍ مِنْ أنَّ ذلك الأصل الأخلاقيّ الَّذي صدع به إميل زولا في مقالته «إنِّي أتَّهِم»، وذلك «البيان» الَّذي وقَّعه قادة الرَّأي مِنَ الفرنسيِّين، إنَّما يُلْمحان إلى أصل أصيل في ضمير الإنسانيَّة، يَحُول، إنْ تأمَّلناه، دون العُزلة والهروب، وكأنَّما كان على «المثقَّف»، إنْ استعرنا عبارة إسلاميَّة أن يكون، دائمًا وأبدًا مِمَّن «يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر»، وليس له مِنْ رائد إلا «الحقّ»، ذلك الَّذي أفنى حياته وهو يطلبه، ويأبى أن يتحوَّل إلى «أداة» في أيدي القابضين على الأمر، مهما يكونوا، فيصبح، في خير أحواله، «نديمًا» تُزَيَّن به المجالس. وإنَّه إنْ عرف رسالة «المثقَّف» الأخلاقيَّة، فعساه أن يستعيد طَرَفًا مِنْ حياة المتكلِّم عمرو بن عبيد، ونعرف مِنْ نبئه أنَّه كان يختلف إلى الخليفة أبي جعفر المنصور، وكان المنصور يحبّه ويعظِّمه، وبينما كان القرَّاء يأخذون من الخليفة الهدايا والعطايا، كان ذلك «المثقَّف» الحُرّ يأبَى هديَّة الخليفة، فصحَّ فيه قول المنصور:

 
كُلُّكُمْ يَمْشِي رُوَيْدْ

 
كُلُّكُمْ يَطْلُبُ صَيْدْ

 
غَيْرَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدْ