طارق الشناوي
نقلًا عن “المصري اليوم”
أسوأ شتائم هى تلك التى ننعت فيها الإنسان بأنه كلب أو من سلالة الكلب، ولكن الفيلم يرد الاعتبار للكلاب، فالبطل يحمل جينات الكلب وأمه بالرضاعة كلبة، موقف لو تعامل معه كاتب ومخرج فيلم (كلب بلدى) بقدر من التأمل لأسفر عن فيلم كوميدى استثنائى، أكرر لو والتى هى كما نعلم جميعا متشعلقة فى الجو.
الجمهور يتعطش حقيقة للخيال، وأفلامنا عموما تعانى من فقر الخيال، وأفلام العيد تحديدا شهدت تراجعا حادا على مستوى السيناريو، برغم أن عددا من الكتاب الجدد قرأت أسماءهم على التترات لأول مرة ولكنهم لم يأتوا بالجديد، وتفسيرى الوحيد لإقبال قطاع لا بأس به من الناس على (كلب بلدى) للمخرج معتز التونى، واحتلاله المركز الثانى بالأرقام بعد (لف ودوران)، هو أن كاتب القصة وبطل الفيلم أحمد فهمى، عثر على فكرة براقة تحمل فى الحقيقة أبعادا جديرة بالتأمل، وتستحق أن نرى من خلالها شاشة أكثر ثراء على مستوى الصورة، وأكثر عمقا على مستوى الفكر، ولكن كما يبدو أن فهمى ومن شاركه فى كتابة السيناريو والحوار شريف نجيب اكتفيا بإحالة الموقف إلى مجرد إفيه يخلق مواقف كوميدية، عمق التأمل لا يتناقض أبدا مع الكوميديا، بل يفتح أبوابا أخرى لو أخلص لها صُناع الفيلم لمنحونا ضحكات خارج الصندوق، ولكنهم قرروا اللعب فى المضمون والسطو على كل ما فى الصندوق من إفيهات، العديد منها انتهى عمره الافتراضى.
لا أستطيع فى الحقيقة قبل أن أتناول الفيلم سوى أن أتذكر الفيلم المجرى الذى شاهدته فى قسم (نظرة ما) بمهرجان ((كان)) 2014 وحصل على جائزة الأفضل فى تلك المسابقة الموازية للمسابقة الرئيسية، شىء ما يستدعى إلى ذاكرتى هذا الفيلم، لا يمكن بالطبع أن أجزم بأن أحمد فهمى لم يشاهد أو يقرأ عن الفيلم المجرى، ولا أملك أيضا الدليل على أنه قد تأثر أو شاهد الفيلم، ولكن الشىء المهم هو أن الفيلم المجرى «الإله الأبيض» للمخرج كورنيل موندوز. عشت معه حالة من النشوة الفنية خاطبت مشاعرى وأطلقت العنان لفكرى وترك بداخلى بصمة لا تُمحى رغم مرور أكثر من عامين.
وحتى نُصبح معا على نفس الموجة، فلا بأس من أن أستعيد معكم ومضات من الفيلم المجرى، الكلب هو رمز الوفاء ويتوقع أيضا المعاملة بالمثل، أو فى الحدود الدُنيا عدم الغدر به، خيال المخرج الذى شارك فى كتابة الفيلم جنح به إلى أن يمنح تلك الكائنات عقلا جماعيا يسعى للانتقام من البشر الذين نكصوا بالعهد، حيث إن الدولة قررت فرض ضرائب على من يحتفظ بنوع معين من الكلاب فقرر أغلبهم التضحية بهم وإلقاءهم فى العراء، تحولت تلك الكلاب الضالة إلى صفقات عند البعض، ووجدها آخرون تشكل خطرا على حياتهم، بينما قررت الدولة أن تنشر فى الشوارع قوات لاصطياد الكلاب وفرزها ومن ثم بيع الأفضل منها، وبدأت المطاردات، وأمسك المخرج باقتدار تلك الفكرة، وبدأ رسم ملامح لتلك الحالة الفنية التى نشاهد فيها الكلاب وهى تمتلك عقلا للهروب من هؤلاء الطامعين فيهم، فى المرحلة الأولى لا تسعى الكلاب سوى للدفاع عن النفس أولا والهروب من القيد وليس الانتقام، كما شاهدنا كلبا أبيض اللون صغير الحجم يمتاز بالذكاء، ويبدو وكأنه هو العقل المدبر لفكرة الهروب، ارتضى الكلاب بالعيش بعيدا عن تجمعات البشر وخلقوا لأنفسهم عالما جديدا، ولكن المطاردات لم تتوقف بحجة أنهم يثيرون الرعب، والحقيقة أنهم كانوا حريصين على أن يعيشوا بعيدا عن عالم البشر على شرط أن يتركهم البشر فى حالهم، عالم الكلاب يبدو أكثر تسامحا وكأنه يتعايش مع الحياة بحلوها ومرها، إلا أن ممارسات البشر تعلمها الشراسة، شىء من هذا المعنى من الممكن أن تجده أيضا فى فيلم هيشكوك الشهير «الطيور»، عندما اعتدى البشر على الطيور الآمنة التى لم تفعل شيئا، قررت الطيور المسالمة بطبعها أن تطارد البشر وتحاصر بيوتهم وكأنه قد حدث تغيير جينى مفاجئ فى سلوكها، وكان المخرج المجرى يقدم تنويعة سينمائية يحيل الطيور إلى كلاب.
وشاهدنا كيف أن الكلاب تنتقل من الدفاع عن النفس إلى الهجوم، وقد تعلمت الدرس من البشر بأن الهجوم خير وسيلة للدفاع.
لتصل الرسالة أنه حتى الضعفاء أو من نعتقد أنهم كذلك يحيلهم الظلم إلى قنابل موقوتة تدمر الحياة كلها. فى الفيلم المصرى تلمح شيئا من هذا خاصة فى المشاهد الأخيرة عندما اتحدت مئات الكلاب خلف أحمد فهمى الذى يحمل شيئا من سلوكها، بعد أن أخبرها بأن عليها جميعا أن تتناسى الخلافات واختلاف الأنواع لتصبح يدا واحدة فى مواجهة عصابة من البشر.
الفيلم المصرى يبدأ وأحمد فهمى رضيع بعد أن تركته أمه التى كانت تُطارد من الشرطة فى إحدى الخرابات لتلتقطه كلبة ترضع جراءها وتعتبره واحدا منها، كما أنها أقصد أمه بالرضاعة فى نهاية الفيلم عندما وجدته يبحث عن شبكة لعروسة قررت إهداءه أساور ذهب احتفظت بها لتمنحها له فى هذا اليوم. وهو من الممكن أن تراه وجها آخر لأشهر شخصية سينمائية عرفها العالم (طرزان) الذى كان طبقا للرواية الأدبية التى قدمت بعشرات من الرؤى السينمائية تتجاوز 100 فيلم، كان طرزان ابنا لأحد النبلاء، ولكن ينتهى به الأمر فى الغابة وترعاه وترضعه القرود، فيصبح واحدا منها، رغم أن جيناته الحقيقية بشر، فصار يتسلق الأشجار ولا يجيد سوى لغة وسلوك القرود، ولكن الحب يعيده لعالم البشر.
بطل الفيلم روكى اكتسب صفات الكلاب من أمه التى ظل على تواصل معها وتعيش معه، كان من الممكن أن يواصل الفيلم تلك الحالة الاستثنائية ليبدأ فى التعمق لينسج العديد من المفارقات تصنعها تلك الشخصية التى تحمل جينات وعادات مشتركة، وكانت تلك قادرة على أن تمنح الأحداث خطا موازيا، خاصة أن ضابط الشرطة أحمد فتحى قرر الاستعانة به لمطاردة قضايا المخدرات، ولكنه أضاف شخصية (أبوحفيظة) المذيع أكرم حسنى الذى يخترع طابع بوسطة يوضع على القفا ومن خلاله يتم السيطرة على ردود فعل البشر، وهكذا دراميا صارت هناك قوة أخرى موازية لها عالمها ومنطقها الخاص، ويدخل أحمد فهمى طرفا فى المطاردة عندما يستعين به ضابط الشرطة أحمد فتحى لكشف عصابة الاتجار فى المخدرات اعتمادا على قوة حاسة الشم لديه التى ورثها عن الكلاب.
انتقام الكلاب عندما تتحد للوقوف مع روكى أحمد فهمى، الذى نراه طوال الأحداث وهو يقدم تفاصيل للعلاقة مع الكلاب، فى رحلة انتقام الكلاب واتحادها معا أرى التأثر واضحا مع الفيلم المجرى، وفى تنفيذ المخرج معتز التونى أشعر بقدر كبير من التطابق فى تنفيذ اللقطات، وأستبعد أنه مجرد توارد خواطر.
وتبقى على المخرج مسؤولية مراجعة عدد من (الإفيهات) التى كان عنوانها الابتذال والسوقية والغلظة، كما أنه مثلا كان من الممكن أن يتابع الخط الثانوى من الضحك الذى شاهدناه فى بداية الأحداث مع ظهور المطرب الشعبى عبدالباسط حمودة، عندما حاولت أم أحمد فهمى سرقته، ولكنه تناساه ولم يستثمره.
أكرم حسنى الشهير بأبوحفيظة فى أول ظهور سينمائى له لم تكن التجربة لصالحه، فهو لا شك مذيع له قاعدة جماهيرية واسعة، ولكن كاميرا السينما لها قانون آخر، أحمد فهمى كوميديان مجتهد، ولكن أرى أن موهبته ككاتب حتى مع عدم اكتمال إلمامه بالتفاصيل التى تمنح الفكرة سحرا خاصا، وتوقفت أمام وجه جديد ندا موسى فهى تستحق فرصة أكبر، بيومى فؤاد وكما وصفوه فى التترات بيومى فؤاد، صار تواجده يُكسب الفيلم الكوميدى شرعية أنه فيلم كوميدى.
(كلب بلدى) هو الفيلم الذى كان من الممكن لو أخلص صناعه للفكرة لأصبح فيلما قادرا على الحياة، ولكن صُناعه ارتضوا له مكانة الفيلم الذى ربما لا تندم لأنك شاهدته، ولكن من المؤكد أنك لن تندم لأنك لم تشاهده!!