لا تبذل جهدا كبيرا في محاولة تصنيف هذا العرض .. هل هو مسرحية تجريدية غنائية أم عرض صوفي مودرن أم آداء سيكولوجي راقص .. أم كل ما سبق .. في كافة الأحوال لن ترى مسرحا تقليديا أو عرضا شاهدت مثله من قبل ..
فقط إفتح مسام عقلك ومشاعرك وأنت في القاعة الصغيرة لمسرح الطليعة تشاهد وتشارك في هذا العرض الذي أعيد تقديمه ضمن فعاليات مهرجان القاهرة للمسرح المعاصر والتجريبي في دورته الثالثة والعشرين والذي يعبرعن صراع (الإنسان الطيب) ضد قوى الجهل والقبح والقمع الديني في إدانة لها جميعا انتصارا لقيم الجمال والطهر التي فطر الله عليها الإنسان
في واقع مرير تحيطه تلك القوى الإظلامية التي جسدها المؤديين المتشحين بالسواد الذين يحاولون سحقه كي لا يظل طيبا في رمزية بليغة وتجريد واعي ومدروس ، ورغم أننا لم نعرف أسماء أي من الأبطال طوال العرض إلا أن الجمهور استطاع اكتشاف جوهرها بسهولة عن طريق حوار ذكي و مُغنّى بالكامل ، ما ساهم في توحده مع القضية المطروحة بشكل أعمق وأكثر تأثيرا .
الحالة الإبداعية التي يحققها عرض ( الإنسان الطيب) فريدة بكل المقاييس حيث نرى أبطاله البالغ عددهم 12 مبدعا يمثلون ويرقصون ويعزفون العود والفلوت والناي والمثلث والكمان والدفوف ويغنون بأصوات شجية في آداء منفرد وجماعي عذب .
الميزانسين Mise-en-sceneأو حركة المؤديين جاءت معبرة ودالة على جهد مضني بعد تدريبهم لتأدية حركات تعبيرية وراقصة شاقة على مدار 9 شهور متواصلة حسب تصريحات مخرج ومؤلف العرض سعيد سليمان الذي استوحاه عن نص الإنسان الطيب لبريخت .
وعي سليمان بمفردات العرض تتضح في أنه لا يُقدّم على مسرح تقليدي ( مسرح العلبة الإيطالي ) بل قاعه يحيط بها الجمهور من كل اتجاه مما ضاعف من صعوبة الأداء الحركي ، كما نجح الإخراج في توظيف القاعة لإحداث التوحد الكامل بين الجمهور والمؤديين خاصة في حركة قوى الشر التي أحاطت بصفوف المتفرجين أكتر من مرة مما أشعرهم بالرهبة والحصار التي تعاني منه البطلة ثم توزيعهم للعطور والورود والأوراق الخضراء على المتفرجين في الجزء الأخير من العرض بعد الانتصار للإنسانية .
الموسيقى جاءت بطلا رئيسيا في هذا العرض لنجاحها في تحريك الأحداث والتعبير عن خلجات ومشاعر الشخصيات التي انعكست في التنقل السلس والبديع بين أشكال موسيقية مختلفة بوعي موسيقي مدروس أبدعه الموسيقار الدكتور هاني عبد الناصر الذي شارك أيضا في الآداء الحركي والغنائي حيث عزفت قوى الشر على الدفوف أثناء صراعها مع البطلة في شكل مستوحى من موسيقى الزار مما ساهم في زيادة حدة التوتر لدى المشاهد
بينما قدمت قوى الخير في النهاية شكلا موسيقيا مستوحى من الروح الصوفية العربية مما نجح في خلق حالة عذبة من السمو الروحي والارتياح النفسي للمشاهد الذي توحد تماما مع الإنسان الطيب الذي جسدت معاناته المبدعة نجلاء يونس تلك الرائعة التي ملأت القاعة تمثيلا وغناء وعزفا برهافة وتمكن عبرت به عن زخم من الأحاسيس والصراعات في مشاهد صعبة خاصة تلك التي عبرت فيها عن ذروة الصراع متحكمة في صوتها الذي اقتربت به من الآداء الرجولي لتعود لطبقاتها الطبيعية كأنثى بسلاسة وتمكن فذ .
الملابس لصبحي عبد الجواد جاءت أنيقة ومعبرة حيث نجح السواد الذي اتشحت به قوى الشر في توصيل رمزيتهم للمشاهد ببساطة ، كما نجح في اختيار الملابس المعبرة عن مرحلة السمو الروحي يتصاميم مشابهة للمريدين الصوفيين إضافة للإكسسوارات البسيطة والبليغة للشخصيات التي رمزت للسلطة الدينية ومظاهر الفوضى والقبح في مجتمعاتنا .
عبد الجواد الذي صمم سينواغرافيا العرض أيضا ( العناصر البصرية والإضاءة والديكور ) عبر عن مراحل الصراع الداخلي الأولى للشخصية الرئيسية من خلال نقوش الأشباح والطلاسم على جدران المسرح والتي جسدت إحساس البطلة بالوحشة مع اختيار جيد لألوان الإضاءة وتوزيعها ، لتكتسي هذه الجدران بالستائر البيضاء والإضاءة الناعمة المريحة فور انتصار الخير .
حصل العرض على شهادات لجنة التحكيم الخاصة في الدورة الأخيرة من المهرجان القومي للمسرح عن التمثيل لنجلاء يونس والموسيقى لهاني عبد الناصر كما حصل على شهادة اللجنة كأفضل عرض والذي شارك فيه مجموعة من الشباب الموهوبين برعوا في عزفهم الموسيقي وآدائهم الحركي والتمثيلي وهم حسام حمدي، مي أحمد رشدي، زياد سمير، شروق محمد، مصطفى الزيات، مريم سعيد، ماري جرجس، نور محمد، شمس عبد الناصر و أحمد كاسبر حيث جسدوا عرضا خارج التصنيف نجح في إمتاع المشاهد والانتصار لجوهر (الإنسان الطيب) .
نرشح لك : كريم فرغلي يكتب: (Yalla underground).. حينما تحرر الموسيقى أحلام الشعوب