نسمة سمير تكتب: ياعزيزي .. كلنا فراجيل

نسمة سمير - مقالات

ترددت كثيرًا قبل الكتابة عن هذا العرض، ربما لأن روحي من الداخل تلك الفترة هشة للغاية، ربما لأن عقلي تجاوز حدود المنطق والإدارك مؤخرًا، ربما خوفًا من إشعال النور والنظر فى المرآه لأجد نفسى فراجيل صغير، قابلًا للكسر، صدمات الحياة جعلتنى أفكر فى التوحد مع ذاتي والعزلة الاجتماعية أصبحت أخشى الخذلان والمكر والخديعة خلف ابتسامات توحى بالسلام والمحبة، حتى أنطفأ ضوء المسرح وظهروا الفراجيليون ليقوموا بتعرية ما نخفيه من صراع ويجعلونا ندخل معركة لا يراها غيرنا بين عقلنا وروحنا المنكسرة.

شخصان لا يربط بينك وبينهم صلة أو معرفة يرحبان بك بحفاوة وابتسامة وكأنهما يربتان على قلبك “اطمئن لست وحدك فى هذا العالم الموحش”، قائلين ” أهلًا أهلًا.. أيه النور ده؟” فى رسالة لك أنك النور المنتظر لإنارة الظلام السائد فى العالم، كلًا منا نور لإحياء الإنسانية من جديد، ويعطوك “الكيس اللى بيطرقع” فتعود طفل عمره لا يتجاوز الـ 6 سنوات مجرد أن تلمسه تدخل فى صراع قاسي بين صورة الطفل النقية التى بداخلك وبين النسخة المشوهة التى افرزتها الحياة، للوهلة الأولى أُصبت بالخوف وكانت تلك صدمتى الأولى “هل الترحيب والسلام أصبحا مخيفين فى عالمنا؟”، وأصبحنا لا نتوقع أن يرحب بنا أحد.

ميثاق شرف وقعه أبطال العرض مع الجمهور فثبتت أقدامهم فى الأرض وعقولهم حلقت فى أعلى المسرح تحاول إدراك ما يحدث تشعر بقسوة الكلمات وهى تخترق الظلام الموجود بداخلك، تبكي.. تضحك.. تصرخ بلا صوت.. ترقص.. تغنى.. تسخر من نفسك.. تتحسس أماكن الوجع التاركة آثارها فى جدران روحك، كل نظرة وخطوة وحركة وحرف ونفس لها كثير من المعاني، لدرجة أن الديكور نفسه يتحدث ويصرخ ويتألم معك.

14483596_1580258102280223_1108766570_n

خمس ضربات ستُجلد بها روحك خلال العرض بعد أن اتفقوا مع الحاضرين أن ما سيشاهدونه تجربة ربما عاش المريض بعدها او استمر فى غيبوبته بكلمة “هنجرب”، فراجيل هو الهش أو القابل للكسر لذلك كان هناك مؤثرات صوت “زجاج ينكسر” وكذلك “الكيس اللى بيطرقع” لأنه يغلف عادة الأشياء القابلة للكسر، وفراجيل مصطلح يطلق على المصابين بمتلازمة (الكروموسوم إكس الهش) وهى نوع من التأخر العقلي والتوحد، مما جعل الأدوية جزءًا من الديكور، فنسأل أنفسنا: هل أصبحنا جميعًا نعاني من التأخر العقلي وعدم إدراك ما يحدث حولنا؟

فى بداية العرض يقول أحد الأبطال للجمهور “ماحدش يزعل”، فينهره البطل الثانى: “ما اللى يزعل يزعل، لو حد زعل انا هعمله إيه”، وتحمل تلك الجمل كثيرًا من المعانى، المعنى الأول هو الخوف من مواجهة الأشخاص بحقيقتهم خوفًا من غضبهم ورد فعلهم العنيف، والمعنى الثانى أنها ليست مسؤوليتنا الفهم الخطأ للآخرين، والمعنى الثالث الخوف من الفقد ومحاولة التبرير لأقرب مَن لنا حتى لا يبتعدوا عنا.

واختار بطلا العرض وهما الفنان أمير صلاح الدين، والفنان محمد فهيم، خمس لوحات من مسرحية “حوارات معفرتة” للكاتب الفرنسى رولان ديبيار، وقاما بعمل ورشة ارتجال لتلك المشاهد، المشهد الأول هو مشهد “البينج بونج” وهو يناقش التناقض بين أفكار البشر، ما بين الانفتاح والتعصب، ويظهر أن كليهما يطبق المفهومين دون وعي أو فهم تطبيقًا أعمى، وقد يصل الخلاف فى الرأى إلى العنف حينما يقول فهيم لأمير “كلمة تانى وهقتلك”.

المشهد الثاني هو “البيانو” والصراع بين رغبة الأهل فى تعليم أبنائهم أشياء قد لا يرغبونها مما يخلق مجتمعًا غبيًّا وفاشلًا، وبين المعلم الذى تحول إلى صنايعي يبحث عن الرزق كالسواق والتاجر وغيرهم، ففقد التعليم قدسيته وتحوّل العلم إلى سلعة لمن يدفع أكثر وعاد ذلك على المعلم بالإهانة فأصبح كعروسة الماريونت يحركها الطالب كما يشاء تحت مبدأ “بفلوسى”، وينتهى بغناء الحروف الأبجدية، ولا يستطيع فهيم قول “وطني وعلمي” مما يدل على فقدان الانتماء إلى الوطن والغربة بداخله نتيجة عدم غرس حب الوطن فى قلب الأطفال منذ الصغر.

أما المشهد الثالث فهو مشهد “الغطس”، ويبدأ بأغنية شفيقة الممزوجة بصوت البحر جربت الحب مرة كات مرة وهى مرة.. أنا عشت فيه ليالى كانت ليالى مرة احترت ودُقت حيرته وليل عذاب سهرته واللى بيجبلى سيرته باقول جربته مرة.. قابلت الحب مرة صدفة ومن غير معاد خد قلبي أوام بنظرة عاهدنى ع الوداد”، المشهد هنا يعبّر عن عدم الثقة فى من نحبهم، أصدقائنا أو أحبابنا بسبب كثرة الخداع، فكلاهما لا يقوم بالغطس خوفًا من أن يخدعه الآخر ولا يقفز بعده، وفى الأغنية تقول شفيقة إنها لن تجرب الحب مرة أخرى لأن من أحبته خان عهد الوداد، فخيانة شخص ما لنا قد تجعلنا نفقد الثقة بالجميع الأمر الذى قد يدمِّر جميع العلاقات بين البشر.

والمشهد الرابع كان “الصراع بين الحداثة والهوية”، وظهر ذلك فى لوحة “الكلسون والحروف الأبجدية”، فأمير فخور بأنه يرتدى “البوكسر”، بينما يسخر من “كلسون” فهيم الذى ورثه عن جده، كما يسخر من الناس الذين أصبحوا يمتنعون عن قول بعض الألفاظ ولكن يدفعون نقودًا ليشاهدوها ويضحكوا عليها، ويرفض أمير ارتداء ملابسه تعبيرًا منه عن رفضه التمسُّك بهويته، ويبدأ هنا فهيم النطق بكلمات غير مفهومة نفهمها بعض انتهاء العرض “الرقص هو الحاجة الوحيدة اللى بتخرجنى من اللى انا فيه”، ثم يقومون بغناء أغنية “أهو ده اللى صار” معكوسة ثم بشكل صحيح، ليؤكدوا أن كل شيء أصبح معكوسًا فى زمننا، خصوصًا عندما لا يعرف أمير أن سيد درويش هو صاحب الأغنية ويطلب من فهيم أن يرسلها إليه “بالفرانكو” لأن هاتفه لا يقرأ عربي لكنه حديث “تاتش”.

المشهد الخامس هو مشهد “الإيد والجيب”، وهنا يدخل أمير مرتديًا جاكيت به “جيوب” كثيرة تعبيرًا عن ثرائه، بينما فهيم لا يحتاج إلى جيوب قائلًا “الكفن مالوش جيوب واللى واخد على الشقا مابيتعبش بيموت فجأة”، ثم يبدآن فى التساؤل عن أهمية اليد فى جسدنا، ليتوصّلا إلى “دى الطريقة اللى ربنا ألهمنا بيها عشان يعلمنا إننا لازم نسلم على بعض بالإيد.. إيديك الاتنين عمرهم ما هيفكروا يسلموا على بعض.. إنما إيد يمين وإيد يمين” ويبدآن فى تبادل التحية والسلام ويحثّان الجمهور على ذلك، وأن الحياة الاجتماعية بدأت عندما اكتشف الإنسان أهمية السلام ورفض البقاء قردًا.

وفى نهاية المسرحية يوجّه فهيم سؤالًا إلى أمير “إنت مؤمن بالسلام؟” فيجاوبه أمير: “وبحبه جدًّا”، ويمد يده بالسلام فيقوم فهيم بقتله، وهنا يتحول إلى قرد، كما تحول العالَم الآن إلى غابة.

تمكن فهيم وأمير من اختراع لغة خاصة فى المسرحية، وهى سمة كتاب المسرح العبثي مثل رولان ديبيار المعروف بالكوميديا السوداء، وغيره من كتاب المسرح العبثى ومنهم “يونسكو” و”صموئيل بيكيت” و”إدافوف”، وصعوبة المسرح العبثى تكمن فى أنه يعتمد على الديودراما، فغالبًا يكون له بطلان فقط، وفى غرفة واحدة مظلمة تبعث إحساس عدم الراحة وعدم الطمأنينة، تناقش الوحدة والهمجية والآلام وعدم الرغبة فى وجود الإنسان، بسبب انعدام الثقة بالآخرين مما دفعه إلى العزلة.

فعلينا جميعًا أن نستيقظ من الغيبوبة التى نهرب بداخلها من البشاعة التى ملأنا بها العالم، أن نُخرِج النور من قلوبنا لنمحو الظلام الذى ابتلع الحياة، ونحول تلك الغابة إلى أرض تروى بالسلام، لنحصد طمأنينة وحبًّا وعدلًا، ونسترد هويتنا التى تنازلنا عنها بشراء سراب يطلق عليه “حداثة”.

14527375_1580258092280224_448536825_n