آمنة الميزوني
في هذه الآيام نرحب برواية مصائر التي تربعت على عرش البوكر لسنة 2016. نسمع أيضا خبر تكليف المدير القادم لمعرض تونس الدولي للكتاب ٬ شكري المبخوت ٬ مدير الجامعة التونسية. لكن هل نكتفي بتعريفه بمنصبه هذا وقد تحدثتا عن جائزة البوكر العربية ؟ طبعا لا. المبخوت اكتسب شهرة واسعة من كتابه الأول “الطلياني” الحائز على الجائزة العالمية للرواية العربية ـ البوكر لسنة 2015.
حين عم الخبر الإعلام التونسي والعربي٬ اقتنيت الرواية مسرعة كي لا تنفذ من السوق٬ هجرتها في الصفحة الثامنة عشر حين لم أجد الإجابة على الحادثة الأولى التي هزت الحي والتي لم تسمح لواجب العزاء أن يكتمل. أحببت الطابع التونسي والكلمات الدارجة المبعثرة هنا وهناك لكن هذا لم يكن كافيا فقد مللت وهجرتها سريعا.
عدت للرواية بعد سنة أو أقل قليلا. السبب يعود إلى مهرجان الامارات للآداب ٬ حين أتاني أحد زملاء العمل يسألني رأيي في الرواية ٬ إن كنت قد قرأت الرواية المنافسة لها “شوق الدرويش” وما كانت ردت فعل الاعلام في تونس حين فازت “الطلياني” بالبوكر السنة الفارطة. توني كالدربنك زميلي كان يستعد لمناقشة الكتاب في إحدى جلسات المهرجان مع المتنافسين حمور زيادة وشكري المبخوت.
ما كان لي إلا أن أعود للرواية لأتمعن فيها وقد وعدت زميلي بأن أعطيه رأيي بالتفصيل.
من الصفحة الأولى يبدأ المبخوت بسنٍ قانونه وهو يصف الزي التونسي ويقارن بين التونسي الأصيل وأبناء الجيل الجديد المتمرد، جيل الجمهورية الأولى. موت الحاج محمود صاحب الوقار الذي يحل ضيفا في الرواية و”الزوفري” (بمعنى العامل) ابنه الملقب بالطلياني بطل الرواية. صراع الأجيال ليس المسألة الطاغية على الرواية.
“عبد الناصر الطلياني ضرب الإمام.” الحادثة التي تدور حولها الرواية، حيث أن الكاتب يحاول تقديم شخصية الطلياني عبر الأحداث المتتالية والقرارات “الطفولية” التي اتخذها في وقت سابق. الكل يتهمه بالفسق والفجور٬ الكتب التي قرأها والظاهر من الدين الذي هجره. قد تصل بعض الشخصيات إلى وصفه بالشعبوي. لكن الطلياني الذي يرويه المبخوت على لسان صديقه شخص آخر يعيش صراعات أخرى.
استعمل المبخوت العربية التونسية السلسة بالنسبة للعربية الفصحى. عرَى المجتمع التونسي بجل طبقاته ومؤسساته تماما. جسد فترة من تاريخ تونس المسكوت عنه٬ الحركة السياسية في الجامعة التونسية، التحرك الطلابي والاتحاد العام التونسي للشغل أحداث الخبز، طريق ‘الوزير الأكبر’، الصراع بين حلم الاشتراكية، وتغلغل الرأسمالية. لم تخلو الحوارات من صورة الشخصيات الشرقية رغم أن شخصيات الطلياني بُنيت على فرضية أنه ليس رجعيا بل تحرري منحل.
الأحداث تقدم المرأة التونسية متحررة، مقارنة بنظيراتها العربيات، حيث أن أغلب النسوة كان شغلهن الشاغل التسلية٬ في حين أن زينة البربرية طموحة٬ جامحة٬ ناجحة. من خلالها يمر المبخوت على مسألة البربر المقموعين في تونس.
يستعمل المبخوت كلمة الفرنجة ليصل إلى القارئ المشرقي، أما بالنسبة للتونسيين، أكاد أجزم أنه لو استعمل كلمة “الرْوامة” أو “العكري” لكان حافظ على الطابع التونسي الذي بدأ به.
الصور التي نقلها شكري المبخوت من الرْبط “قلب مدينة تونس” ٬ كانت كالبلسم على قلبي تلك الرسائل المشفرة بين الأم والخالة ٬ تأليف القصص عن الحمل والأسرار بين نساء الحي الأكابر”النسوة الماكرات يصلحن الخطأ الشنيع” ليعطين شرعية لنسب وشكل الطلياني الذي لا يشبه أيا من أفراد أسرته. من القصص التي كانت تألفها النساء قديما٬ حكايات عن النساء اللاتي يحملن وينجبن بعد موت بعولتهن “أوه المسكينة من شدة حزنها على زوجها، نام الجنين في رحمها لأربع سنوات.” والحالات كثيرة والحكايات لا تخلو من مكر النساء وسذاجة المتلقي. لم ينسى الراوي تلك الروائح التي تنبعث من المدينة، والتي جسدها في شخصية “للآ جنينة” التي وصفها المبخوت بروح الأرواح. رائحة السواك (المسواك) وقشور البرتقال المجفف، والقائمة تطول…
حملت الرواية عدة شخصيات مختلفة من الأمني الركيك إلى المناضل المتفاني. تتحدث عن بورقيبة وما فعله بالشعب ٬ من محو لشخصيتهم وتاريخهم كسياسته مع البربر حين منعهم من تحدث لغتهم وتسمية أبناءهم بأسماء غير عربية ـ في حين أن البعثيين يلومون نفس النظام بأنه ممن حاربوا العروبة والوحدة العربية٬ حتى تعامل السلطات الأمنية مع الاسلاميين وغيرهم (رائحة الخمر التي تنبعث من راكب التاكسي ليلا تكون دليل براءته). يلمح المبخوت إلى الدستوريين العائدين الآن في جُبَة البورقيبيين عبر شخصية رئيس التحرير الذي يرى أن بورقيبة زعيم جيد لكن تنقصه الديمقراطية.
حين بدأت في قراءة الفصل الرابع “رواق الوجع والألم”٬ عاودتني المشاعر والأحاسيس التي عشناها أيام ثورة جانفي ـ يناير 2011. تحالف المزالي مع الخوانجية “الاسلاميين” ضد اليسار، استخدام الأمن للخادمات، سواقي التاكسي وغيرهم للاطاحة بالمعارضين والتضييق عليهم.
طرح الكاتب مشكلة الجهوية التي نعيشها في تونس عبرعلاقة الطلياني بزينة حين وقع رغما عنه في شرك المقارنة بين التصرفات التي يعتبرها عادية ، ما علَمته الحاجة زينب بألا يدخل البيت فارغ اليدين وبين زينة التي لا تحسب حسابه في أبسط الأشياء. ذهب بالوصف إلى إهمال الحبيبة لأبسط المستلزمات النسوية أو حتى لطريقة تعاملها معه. مما جعل الرجل الشرقي يستفيق ويضعف أمام إغراء من لم تهمل الأنثى فيها.
من العوامل الرئيسية التي قد تكون سببا لنجاح هذه الرواية هي الفترة الزمنية التي تدور الأحداث فيها. أواخر حكم بورقيبة، الانقلاب السلمي وبداية عهد بن علي. فترة كانت محرمة إلا للتابعين والمنافقين الذين لم يفقهوا سوى تمجيد الديكتاتورية.
في هذا السياق يقول توني كالدربنك: “من خلال الصراع البروليتاري الذي يعيشه البطلان٬ يعري لنا المبخوت الجانب المظلم من المجتمع التونسي٬ الفقر وفقدان الأمل٬ الاستغلال الجنسي والسطحية التي تطغى على الطبقة المثقفة. حتى تطور العلاقة بين الطلياني وحبيبته كانت تبرز هذه الجوانب٬ فالطلياني أصبح صحافيا أما زينة فأصبحت جامعية لكن حادثة التحرش أثرت على مستقبلها.”
بعض البلدان قررت منع الرواية، قرار يفهمه من يقرأ الرواية. قد يرجع لأسباب سياسية أو لأسباب أخلاقية فقد يصنفها البعض ضمن روايات عبير فهي لا تخلو من مقاطع وصف للحب والمشاعر. المبخوت لم يمسك قلمه عن وصف ممارسة الحب بين الحبيبين والعاشقين. لكنه لم يقع في شراك سرد القصص الأسطورية السعيدة٬ فهو كما صرح لتوني كالدربنك “لا يحب قصص الحب السعيدة فهي مملة”.
لمن يتابع المشهد السياسي التونسي، فإن شيئا لم يتغير منذ عهد التحول إلى عصر الثورة المباركة. فيقول الكاتب “سياسة الاصلاح الهيكلي أدت إلى كوارث.. الدولة تكاد تفلس.. البنك العالمي وصندوق النقد الدولي يتحكمان في كل شيء… وضرب الاتحاد الآن لا يمكن الكادحين والعمال وحتى الموظفين من أن يتنفسوا .. الوضع كارثي .. يمكن أن ينفجر في أي لحظة وهذا ما يعطي للإسلاميين فرصة الركوب على الحالة الثورية.”
لم ينس أهم الفترات التي شهدتها البلاد التونسية وقت التحول المبارك حين أصبحت بيوت الله عامرة فجأة وصرح كبيرهم الذي علمهم السحر (في تلميح للشيخ الغنوشي) “ثقتي في الله ثم في بن علي”. مثلما يجب علينا ألا ننسى كيف حبس بورقيبة الاسلاميين، علينا أن نتذكر عهدهم مع بن علي قبل أن يفتك بهم بعد الانتخابات الديمقراطية.
يصعب التصديق بأن الرواية هي أول ما كتب شكري المبخوت. الشخصيات تونسية بحتة في كل شيء في كل تصرف وتفكير. قد يكون هذا ما جعلني منحازة إلى فوز الرواية بالبوكر بدلا عن شوق الدرويش. أصنفها ضمن كتبي المفضلة على موقع goodreads. وأهديها لأصدقاءي العرب ضمن الكتب التي يستطعون قراءتها باللغة العربية عن تونس٬ وشخصية التونسي. أتمنى أن أراها في عمل سينمائي قريبا. من ذكرياتي المضحكة مع هذه الرواية أنه حين كنت أقرأ الفصل الذي يتحدث فيه الطلياني عن الحرب في بيروت، كنت أزور تلك المدينة، أجوب شوارعها وألتقط صورا للمباني المتبقية من أيام الحرب الأهلية. وجدت الرواية – التونسية الوحيدة – في جل المكتبات اللبنانية في وسط المدينة.