هل قال السيسى يوماً.. «الله يا ست»؟

طارق الشناوي - مقالات

نقلًا عن” المصري اليوم”

نسأل دائماً عن فيلم وأغنية تليق بأكتوبر، وهو سؤال مشروع بالطبع، ومع مرور 43 عاما على الانتصار صار السؤال أكثر إلحاحا

من البديهى ألا نضع خطا فاصلا بين العمل الفنى وميول الرئيس،لا أتصور سوى أن العمل الفنى يحمل ملامح الرئيس الفكرية،ولهذا أُطل على الرؤساء بتلك الزاوية لنعرف مدى إيمانهم بحرية الفن، من خلال تذوقهم الفنى.

نبدأ ببطل أكتوبر أنور السادات، وهو نموذج للرئيس الفنان بطبعه، حيث كان يطيب له كثيرا أن يدعو بليغ حمدى إلى بيته ويستمع إليه ويردد أغانيه، ولم تظهر فقط ميوله الفنية أثناء الحكم، بل كان من المعروف أنه

تقدم بصورة شخصية لأمينة محمد- إحدى رائدات السينما المصرية- لكى تسمح له فى نهاية الثلاثينيات بالمشاركة فى بطولة فيلم (تيتاوونج)، وقدم نفسه بخطاب وجهه إليها قائلا إنه أسمر، وحرص على أن يؤكد فى نفس الجملة أنه ليس أسود البشرة، وفى النهاية سقط السادات فى الاختبار، ولم يُصبح (جان) فى السينما، ولكنه لم يفقد أبدا شغفه بالتمثيل ولا بالفن، حيث إنه كما قال لى عمر الشريف طلب منه أن يستغل علاقته بفنانى هوليوود لإنتاج فيلم عن انتصار أكتوبر، ولكن عمر الشريف، والذى لعب دورا فى التمهيد لزيارة السادات لإسرائيل، بتكليف من السادات، أكد أيضا أنه رحب فى البداية، ولكنه تراجع خوفا من أن يأتى الفيلم متواضعا، فيصبح هو لوحة التنشين لكل من يريد مهاجمة الفيلم أو مهاجمة السادات أو مهاجمته شخصيا، كما أن الملحن والممثل الراحل عبدالعظيم عبدالحق كثيرا ما حكى لى عن تلك الجلسات التى كانت تجمعه مع جاره فى السكن بحى المنيل، فى نهاية الأربعينيات، الضابط أنور السادات، وكان يشارك فى تلك السهرات الشاعران مأمون الشناوى وعبدالفتاح مصطفى، والملحن رؤوف ذهنى، وكثيرا ما كان السادات يشارك بالغناء لمطربه المفضل فريد الأطرش، وكان يصاحب تلك المجموعة عود سيد درويش، استطاع عبدالحق أن يعثر عليه من أحد الأصدقاء القدامى للشيخ سيد.

كان السادات أيضا يجيد الكتابة الصحفية، وله فى الأرشيف مذكراته فى السجن المكتوبة بحرفية وخفة ظل، والتى نشرتها مجلة (المصور) أثناء محاكمته بتهمة اغتيال أمين عثمان، كما أنه أقام عيدا للفن منذ عام 74، وتحديدا فى 8 أكتوبر، وقد ألغاه مبارك ولم يعقد سوى مرة واحدة فى 13 مارس 2014، فى عهد الرئيس المؤقت عدلى منصور، كان السادات يجيد فن التعبير، ولو تابعت خطاباته لاكتشفت قدرته الأدائية والحركية التى لا يمكن سوى أن تؤكد لك أنه فنان بالسليقة، وأتذكر كيف أنه عندما قرر منح الدكتوراه الفخرية للشاعر أحمد رامى فى الذكرى الأولى لأم كلثوم، وألقى رامى بقصيدة يقول فى أحد أبياتها (قد كنت أسمعها تشدو فتطربنى / واليوم أسمعها أبكى وأبكيها)، فما كان من السادات سوى أن ألقى بالأوراق التى بين يديه بعيدا وأردف قائلا إنه لا كلام بعد رامى

عبدالناصر لم تكن لديه نفس قُدرات السادات فى الأداء، ولكن كان لديه استعداد فطرى للتعاطى مع الفن، كان سميعاً لأم كلثوم، وقرأ لتوفيق الحكيم فى مرحلة المراهقة (عودة الروح) وأثرت فى تكوينه الثورى، وكتب وهو فى الثانوية نصف رواية (فى سبيل الحرية)، واختار اسم البطل محسن على اسم بطل (عودة الروح)، وأكملها بعد ذلك عبدالرحمن فهمى، وكان يُدرك دور الفن ويتابع الفنانين، حتى إنه طلب أن يجتمع قطبا الموسيقى عبدالوهاب وأم كلثوم لأول مرة فى أغنية (أنت عمرى)، صداقة عبدالناصر بإحسان عبدالقدوس معروفة، حتى فى تلك الفترات التى زج به إلى المعتقل، وهو الذى سمح بنشر (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ فى الأهرام رغم اعتراض الأزهر، وبلغ المزاج الفنى لعبدالناصر ذروته عندما استقبل جمهور فيلم (عهد الهوى) فى الافتتاح بدلا من فريد الأطرش، الذى كان قد أصيب بذبحة صدرية حالت دون حضوره العرض الخاص، كما أنه استدعى فريد شوقى وطلب منه أن يقدم فيلما عن معركة بورسعيد، كان فريد وقتها عام 56 هو النجم الشعبى الأول، فقرر عبدالناصر تسويق الانتصار دراميا من خلال شعبية فريد شوقى، وعندما اكتشف هروب فاتن حمامة إلى بيروت بسبب مطاردات صلاح نصر لها، كلفت الدولة الكاتب سعد الدين وهبة، المعروف بعلاقته الطيبة بالفنانين، بإعادتها لمصر، وقال الرئيس لهم فاتن ثروة قومية يجب إعادتها.

مبارك لا تستطيع أن تعثر لديه على ميول فنية، حتى إنه عندما التقى مع أسرة فيلم (أيام السادات) لتكريم فريق العمل قال لمخرج الفيلم محمد خان: (أنا افتكرت أثناء عرض الفيلم ح أنام ولكنى لم أنم)، أى أنه يعتبر الفيلم بالنسبة له فرصة للنوم.

مبارك كان يحب الزفة التى تصاحبه مع الفنانين، ولكن لا أتصوره محبا للفن، ولهذا ألغى عيد الفن، ولكنه كان يحتفل دائما بذكرى أكتوبر، ويتحول الأمر إلى حفل عُرس له، فلقد كان يريد أن يصبح انتصار أكتوبر يساوى فقط الضربة الجوية، بل كان آخر مشروع سينمائى دعمته الدولة قبل ثورة 25 يناير بأسابيع قلائل هو فيلم (الضربة الجوية)، وتم ترشيح أحمد شاكر لدور حسنى مبارك، والغريب أنه بعد نجاح ثورة يناير توقف بالطبع المشروع، وتردد أن هناك مشروعا آخر لفيلم يعدد مثالب مبارك، وكان المرشح أيضا للبطولة أحمد شاكر.

كان الموسيقار عمار الشريعى يذكر أن صفوت الشريف، وزير الإعلام الأسبق، كان يطالبه بالتعامل مع مبارك فى ليلة الاحتفال باعتباره العريس، وهكذا غنوا له (اخترناه اخترناه وإحنا معاه لمشاء الله)، وفى أوبريت آخر كانت تقول كلماته فى أحد المقاطع (عايزين عبور تانى) تدخل صفوت الشريف بتغيير المقطع إلى (عايشين عبور تانى)، خوفا من غضب العريس، أقصد مبارك.

لا تنسى رحلات مبارك إلى (توشكا)، حيث كان يصطحب معه عدداً من الفنانين، وكانت الجرائد والتليفزيون حريصة على نقل مشاعر الحفاوة التى يلقاها مبارك منها، ولكنى لم أستشعر أبدا أن مبارك لديه شغف فنى، حتى كانت مفاجأة بالنسبة لكثيرين أن يكتب مقدمة كتاب عن أم كلثوم أصدرته كاتبة فرنسية، وبالطبع هناك من كتبها له.

هل الرئيس عبدالفتاح السيسى له اهتمامات فنية؟ على كثرة الحوارات التى أجريت مع الرئيس لم يتطرق أحد إلى الجانب الفنى، نعم تناولوا الجانب الثقافى، مثل قراءته لجمال حمدان، ولكن لا ذكر أبدا لتعاطيه مع الفنون، ما أعلمه من عدد ممن أتيح لهم لقاؤه أنه يحب فيلم (رد قلبى) ويتمنى أن **تتمثل** السينما فى عهده هذا الفيلم، كم تمنيت أن يسأله أحد هل مثلا فى لحظة نشوة عندما يستمع إلى «أطلال» أم كلثوم يقول «الله ياست»، ومن كانت فى مرحلة الشباب والمراهقة نجمته المفضلة، ومن هو نجمه المفضل؟

لم يسأل أحد الرئيس من قبل هذه الأسئلة المشروعة، ربما كانت تركيبته العسكرية المحافظة حالت دون التطرق إلى هذه الأسئلة. أيضا لعبت ميوله دورا فى تحديد رؤيته للفن بمنظار وقناعة محددة، وهى فى العادة تقع فى إطار أخلاقى مباشر، كثيراً مما نتابعه فى الحياة الفنية والثقافية يؤكد أن هناك من يتصور أن إرضاء الرئيس هو فى فرض شاشتين «صغيرة وكبيرة» معقمتين وبث أغانى مقدمة طبقا للشروط الشرعية، وهكذا مثلا فى شهر رمضان فى الأعوام الماضية، كثرت الهيئات والمنظمات الرسمية والشعبية التى تطالب بفرض قواعد أخلاقية مباشرة على الفن، أتصور أن الدافع إليها كان هو قراءة سريعة لشفرة الرئيس.

الرئيس فى أحد احتفالات الجيش، حضره يسرا وأحمد السقا، وأثناء كلمته لمحهما والتفت موجها حديثه إليهما قائلا: «ربنا ح يحاسبكوا على اللى بتقدموه للناس»، تستطيع أن تلمح فى التعبير ما يحمله من مرجعية دينية.

دائما السلطة وفى كل العهود تريده فنا مهذبا، عندما قامت ثورة 23 يوليو 52 أصدر اللواء محمد نجيب بيانا بعد أسبوعين فقط من بداية الثورة عنوانه «الفن الذى نريده»، ووجه نداء للسينمائيين يحثهم على تقديم أعمال فنية تليق بالثورة والعهد الجديد، وعتب على السينما بسبب تواجد قسط وافر من الرقص فى الأفلام، وبرغم ذلك كان المجتمع المصرى لديه قناعة أن السينما هى السينما وليست خطبة فى جامع ولا عظة فى كنيسة، واستمرت الأفلام بنفس الملامح، والرقص فى الأفلام لم يتوقف من تحية كاريوكا وسامية جمال إلى نعيمة عاكف، ثم نجوى فؤاد وفيفى عبده ودينا، وصولا إلى صوفينار.

السؤال ما الذى يريده الرئيس من الفن؟ يحتاج أن ينصت الرئيس إلى آراء أخرى غير تلك التى تحاول إقناعه أنه لو نظف الفن سيجد مجتمعا صالحا لا تخرج منه العيبة، على الرئيس أن يوقف هذا الاستعداد الفطرى لفرض وصاية على مشاعر الناس، اتركوا الفن لاختيار الناس ولا تنزعجوا لو رددوا فى لحظة «أديك فى الجركن تركن»، فقط على الدولة والرئيس شخصيا أن يهيئ المناخ الصحى ومنح ضوء أخضر لإنعاش الحرية، ولكن ما أراه حاليا، وفى العديد من القرارات، هو ضوء أخضر لتوحش الرقابة، تسألون وما علاقة كل ذلك بفيلم عن حرب أكتوبر؟ أقول لكم إن رؤية الرئيس للفن هى التى ترسم ملامح الإبداع القادم، لاتزال الرقابة فى يد الدولة، ولا أتصور أننا ستشاهد فيلما قادما عن انتصار أكتوبر إلا من خلال قراءة فكر الرئيس!