من المحزن أن ترحل شخصية عظيمة عاصرت أجيالًا وملوكًا ورؤساء، خاضت معارك وطنية على مدار عمرها، ألفت عشرات الكتب عن الأدب والسياسة والفن، ثم ترحل عن عمر ناهز الـ 90، دون صدى أو صخب، هذا ما حدث مع الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، التي لقبت بالعديد من الألقاب التي تنسبها إلى “النيل” الذي طالمًا أحبته وكان موضوع رسالتها للحصول على الدكتوراه عام 1959، حيث حملت عنوان “النيل في الأدب العربي”.
عندما يُذكر اسم نعمات أحمد فؤاد، يأتي على البال قضية “بيع هضبة الأهرام”، التي تعتبر أهم معاركها الوطنية، للوقوف أمام غول الانفتاح الذي وصل إلى حد التفريط في ثقافة مصر وتاريخها، في عهد الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، وهو ما لم تتحمله ابنة مركز مغاغة بمحافظة المنيا.
وبالرغم من أن قضية بيع هضبة الأهرام، تعتبر “أم المعارك” بالنسبة لنعمات أحمد فؤاد، إلا أنها لم تكن الأخيرة أو الوحيدة، حيث قررت منذ ذلك الوقت ألا تصمت على السياسات التي كادت تؤدي بكوارث وطنية إن صح التعبير، ليس على المستوى الثقافي فقط، ولكن تجاه ما يمس حياة المصريين بشكل مباشر، وهنا يستعرض إعلام دوت أورج أهم ثلاث معارك خاضتها الراحلة نعمات أحمد فؤاد التي توفت يوم السبت 1 أكتوبر، وعلى رأسها قضية “هضبة الأهرام”.
بيع “هضبة الأهرام”
البداية في شهر يونيو عام 1977، عندما أعلن الرئيس السادات في قرار جمهوري، عن طرح أراضي هضبة الأهرام، لإقامة ملاعب “جولف”، وبما أن صوت المال الملوث كان أعلى في هذا الوقت من أهمية الآثار وتاريخ مصر، فإن القرار لم يلتفت إلى خطر هذا المشروع على الآثار في هذه المنطقة، التي يمكن أن تأكلها المياه.
الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، كانت تعلم أن القرار الجمهوري، لا يمكن إلغاءه إلا بقرار جمهوري مثله، لذلك قادت حملة صحفية وقضائية شرسة ضد الرئيس السادات في ذلك الوقت، وجندت أسرتها لمساعدتها، وذلك حسب تصريحات تلفزيونية سابقة لابنها الدكتور أحمد طاهر، أستاذ إدارة الأعمال في الجامعة الأمريكية، الذي قال إن والده بحكم عمله كمحاسب قانوني، كان يقوم بتحليل ميزانية الشركة التي ستستلم المشروع، أما ابنتها فبحكم دراستها في كلية السياسة والاقتصاد، فكانت تُحضّر لها التحليلات السياسية للمشروع التي يجب أن تطلع عليها.
استمرت هذه المقاومة من جانب الدكتورة نعمات، حتى وصلت إلى أن ترفع قضية على رئيس الجمهوريه بشخصه وصفته، لإجباره على التراجع عن هذا القرار، واستمرت في حرب مع الجهات الموالية للمشروع، لمدة 11 شهر، هي عمر هذه المعركة، حتى تراجع الرئيس السادات، حث أصدر في 28 مايو عام 1978 قرارًا جمهوريًا يلغي القرار الأول، ويلغي معه هذا المشروع.
بعد انتهاء القضية، قام زوج الراحلة بتجميع أهم الدراسات والمقالات التي استخدمتها الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، في كتاب، لطبعه على نفقته الخاصة، وذلك لعلمه لأن الكتاب سيُصادر، كما قام بطبعه في ثلاث مطابع، وبالفعل تمت مصادرته في مطبعتين ونجح في الخروج إلى النور من الطبعة الثالثة، لكن سرعان ما تمت مصادرته من الأسواق.
مصر تدخل “عصر النفايات الذرية”!
لم يكن هذا العنوان، الذي اختارته الدكتورة نعمات أحمد فؤاد مع الدكتور حامد عبد الله ربيع، ليكون عنوان كتاب جديد أو “معركة جديدة”، سوى نكتة سوداء حزينة على ما وصل إليه حال مصر، عام 1979، وذلك بعد أن عرفت من مصدر لها في وزارة الخارجية، عن وجود اتفاقية بين مصر والنمسا، تقضي بدفن النفايات الذرية للنمسا في الصحراء المصرية، لكنها لم تُصدق أن يصل الأمر إلى حد وضع شروط مهينة في الاتفاق، مثل أن تقوم النمسا ببناء مستشفى خاص بعلاج الحالات التي ربما تُصاب بأمراض جراء هذه النفايات، وتكون على نفقة النمسا، الشرط الثاني والأكثر إهانة، هو أن للنمسا الحق في استرجاع هذه النفايات، إذا ثبت في المستقبل أنه يمكن استخدامها في مشروعات صناعية.
كالعادة، قاومت الدكتورة نعمات أحمد فؤاد هذه المهزلة، وخاضت حملة صحفية كبيرة لإلغاء هذا الاتفاق، ولكن كان صانع القرار في مصر، مع صحافته وبرلمانه، أكثر شراسة من معركة هضبة الأهرام، وعرف كيف يقف في وجه مقاومتها للمشروع.
لم تستسلم الكاتبة الراحلة، لهذا الأمر، بعد أن أحست أن مقاومتها المحلية لن تُجدي وأن المشروع سيمر رغم تلك الحملات الصحفية، حتى لجأت إلى الصحف العالمية، وقادت حملة دولية للوقوف أمام هذا الاتفاق، وبالفعل تم إلغاءه، ولكن ما أحزنها أن البرلمان النمساوي هو الذي رفض المشروع وليس البرلمان المصري أو الحكومة المصرية.
.
توت عنخ آمون يتجول في “مول” ياباني
انتقلت معارك نعمات أحمد فؤاد الوطنية، من عصر الرئيس السادات، إلى عصر الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وكانت أبرز معركة خاصتها في هذا العصر، عندما وقفت وجه سياسات فاروق حسني، وزير الثقافة المفضّل لدى مبارك، وذلك عندما أعلن عن عرض بعض الآثار المصري في الخارج.
لم يكن اعتراض الدكتورة نعمات، على الفكرة نفسها، وذلك لوجود قانون يسمح بالفعل بعرض الآثار المصرية في الخارج، ولكن على أن يتم ذلك وفقًا لشروط صارمة، لم يلتزم بها فاروق حسني.
الشرط الأول للسماح بسفر الآثار المصرية، إلى الخارج هو أن تكون القطع الأثرية “مكررة” وليست الفريدة من نوعها، الشرط الثاني أن تسافر الآثار في اتفاق مع حكومات دول، وليس شركات خاصة، أما الشرط الثالث فهو أن يكون على القطع الأثرية تأمين مناسب نظرًا لقيمتها الكبيرة.
لم تلتزم الحكومة المصرية بأي من هذه الشروط، حيث قرر فاروق حسني، أن تُسافر المجموعة الكاملة لآثار توت عنخ آمون الفريدة إلى شركة يابانية ستقوم بعرضها فيما يشبه الـ”مول التجاري”، كما أن التأمين عليها كان ضئيل جدا حيث بلغ 10 آلاف دولار فقط، وهو ما وقفت الراحلة نعمات أحمد فؤاد في وجهه، خاصة وأنها كانت عضوًا في اللجنة العليا للآثار، وهي اللجنة التي كان يترأسها فاروق حسني، وبالفعل توقف المشروع بعد أن حصلت على ثلاثة أحكامًا قضائية ضد وزير الثقافة الأسبق.