ترجمة : أحمد عدلي ( نقلا عن موقع Linkedin)
استيقظت في أحد أيام يونيو 2016 عازما على ترك واحدة من أفضل الوظائف في مسيرتي العملية بشركة جوجل لأقرر الانضمام إلى شركة إقليمة ناشئة .. “كريم”. قررت أن أترك الراتب الكبير، في الشركة الأكثر نجاحا في العالم، قررت أن أترك العمل مع ألمع العقول والعودة إلى مصر .. في تلك اللحظة، ماالذي كُنت أفكر فيه بالضبط ؟لقد اتهمني والدي بالجنون، أما أصدقائي فاعتقدوا أنني أمر بأزمة منتصف العمر .. لكني أعتقد أنها فرصة منتصف العمر ..مسؤولية منتصف العمر.
هذه هي حقيقة رحلتي التي أريد أن أُعرفكم بها
ومن أجل ذلك، أريد منكم أن نفكر جميعا في رقم … رقم 9 … تسعة أعوام. لقد مر ما يقرب من تسعة أعوام منذ ديسمبر عام 2007.
في تلك الأعوام التسعة، تخرج ابني “علي” من المدرسة الثانوية في مصر، ثم بعد ذلك تخرج من إحدى جامعات الولايات المتحدة، وانتقل بعد ذلك للعمل بدولة الإمارات.
في تلك الأعوام التسعة، أصبحت ابنتي “نور” فتاة شابة جميلة، تدرس الآن في واحدة من أصعب مدارس التصميم في العالم في مدينة نيويورك؛ وأضمن لكم، أنكم سوف تتذكرون اسمها عندما تنظرون قريبا إلى المباني والمنازل.
تسعة أعوام
في تلك الأعوام التسعة، رأينا العالم في تقلب مستمر، رأينا الركود، والانتفاضات والثورات في كل ركن من أركان الكوكب – خاصة على أرض الوطن (مصر). شهدنا تغيير أربعة رؤساء. شاهدنا حكومات تأتي وتذهب. رأينا قواعد تتغير بين عشية وضحاها. تغيرات لم يتوافق عليها الكثير منا .. خسر العديد منا الكثير في خضم هذه التغيرات. حيث يعتقدون أنها أحرقت الجسور التي كان من المفترض أن تمضي بنا إلى الأمام. لكن تحت رماد تلك النيران، ارتفع بصيصا من الأمل. ولم يكن من الطبيعي ولا المنتظر أن تخرج العنقاء .. ذلك الطائر الأسطوري من تحت هذا الرماد .. لكنها لم تكن نفس طائر العنقاء الموجودة في حكايات ما قبل النوم التي حكاها لنا آباؤنا بالريش المشتعل والهالة المتوهجة .. طائر العنقاء التي نملكها الآن قد أخذت شكل الأعداد الثنائية .. إنها تتحدث فقط بالأصفار والآحاد، العنقاء التي نملكها ستذهب إلى كل مكان
ماذا فعلت عنقاء جيلنا في تلك الأعوام التسعة ؟ لقد مزقت تماما ذلك الوضع القائم
في تلك الأعوام التسعة، ظهر فيسبوك – موقع ناشئ بواسطة شاب ترك الدراسة في جامعة هارفارد ليتفرغ لمشروعه – تطور من مجرد صورة أخرى لموقع “ماي سبيس” إلى إمبراطورية كاملة من وسائل الاعلام والتواصل. جمعت أكثر من 1.5 مليار شخص من جميع أنحاء العالم. أطلقوا طائرات تعمل بالطاقة الشمسية. وأتاحوا الاتصال بالإنترنت في كل بقاع الأرض. لقد غيروا حرفيا الطريقة التي نتحدث ونتواصل بها وننشر بها الأخبار، كأفراد ومؤسسات.
في تلك الأعوام التسعة، شركات مثل “ايربي ان بي” أعادت تعريف وتشكيل أسلوب السفر والسياحة بشكلها التقليدي الذي نعرفه، وحولت كل منزل وغرفة إلى شبه فندق، ونافست كيانات عملاقة مثل هيلتون وشيراتون وغيرها في كل مدينة على وجه الأرض . “ايربي ان بي” الآن لديها أكثر من 60 مليون مستخدم مُسجل في قواعدها، مع أكثر من مليوني منزل على قوائمها .وتقدر قيمتها بأكثر من 25 مليار دولار، وتغطي أكثر من 57000 مدينة في 191 دولة.
في تلك الأعوام التسعة، ظهرت الآلاف والآلاف من الشركات الناشئة في كل أنحاء مصر، والشرق الأوسط، بل والعالم بأسره. نظر الملايين من الشباب من حولهم، وأدركوا أن هذا العالم لم يعد برضيهم، وأنهم سوف يقومون بتحديه وتغييره. وجد اللاجئون السوريون أملا جديدا لهم ولقضيتهم من خلال التطبيقات الجديدة على المحمول التي توصلهم بسهولة لعائلات على استعداد لفتح بيوتهم لهم وإيوائهم. المرأة السورية تشعر بالإلهام في صنع منتجات وبيعها للناس من خلال تطبيقات مثل Mumm
مجموعة من رواد الأعمال المصريين أخذوا ما بدا وكأنه فكرة مجنونة على الورق وبدأوا في تطبيقها فعليا حتى أصبحت واقعا عندما أطلقوا شركة “كرم-سولار” – وانتهى بهم المطاف إلى كونهم بيعون الطاقة للحكومة المصرية الآن. فكرة أخرى مثل “نفهم.كوم” أرادت أن تأخذ التعليم من المدارس وتوسعه ليشمل كل شاشة متصلة بالإنترنت حتى يسود العلم والمعرفة – واليوم تغطي الفكرة مناهج كاملة من خمس دول في منطقة الشرق الأوسط. قامت الأفكار الناشئة المصرية بصناعة “ثورة” في كل ما هو موجود منذ زمن. حتى عندما تعلق الأمر بالنعي. رآها موقع “الوفيات.كوم” فرصة للتواسي في العالم الرقمي
كل ما سبق – حدث في تسعة أعوام
في تلك الأعوام التسعة، كنت جزء من جوجل، واتخذت العديد من الأدوار في مصر ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وعالميا، كنت أنمو وأكبر على المستوى الشخصي والوظيفي. ساهمت في إطلاق جوجل مصر وتنميتها بصفتي المدير الإقليمي لجوجل في مصر وشمال أفريقيا جنبا إلى جنب مع فريق عمل مدهش. كنت جزءا من ذلك الفريق عندما وسعت جوجل عملياتها بشكل أكبر في الشرق الأوسط مع دبي لتقود الساحة، لقد كنت دوما ذلك الشخص الحالم، لذلك قررت أني في حاجة إلى تحد أكبر، أريد متاعبة الأحلام وجعلها حقيقة واقعية. قررت الانضمام إلى جوجل – أكس؛ قسم من أقسام جوجل .. مخصص للقفزات الكُبرى إلى الأمام.
هل تعرف “جوجل-إكس” ؟ “جوجل إكس” هي بالأساس وحدة في جوجل لا تنظر فقط للمشاكل القائمة، وتحاول حلها، لكنها وحدة متخصصة في التفكير بطريقة “الصعود إلى القمر “.. ماذا يعني هذا ؟ يعني التفكير بأسلوب يجعلك تقفز قفزات هائلة إلى الأمام، عن طريق وضع تصور للمشاكل التي لم تظهر بعد – ومعرفة الطرق الأفضل لحل هذه المشاكل بمساعدة التكنولوجيا. لشخص فضولي مثلي، كان هذا يُعد حلما. حظيت بالعمل جنبا إلى جنب مع بعض من ألمع عقول عصرنا، وربما في كل العصور. شاركت في مشروعات ستغير الطريقة التي يعيش بها البشر حياتهم
إن السؤال المنطقي في أذهان أغلب الناس، وربما ذهنك أنت أيضا، هو: “وائل، لماذا تركت وظيفتك الرائعة هذه ؟” حسنا، أنا افترض أنك يمكن تشبيه تجربتي في اختيار الإستقالة من جوجل كاختيار إنهاء علاقتي مع حبيبتي في سن الجامعة. كانت جميلة، ذكية، محبوبة من قبل جميع – ومني – لكنها لم تكن المُختارة . إنه شعور لن تستطيع الهرب منه مهما حاولت. إدراكي أني اكتفيت من العمل مع جوجل لم يكن بأي حال سلسا أو سريعا. لكنك كنت تعرف أن هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله. تخشى ألا تقابل فتاة مثلها مرة أخرى. تخاف أن أحدا لن يستطيع ملء الفراغ الذي تركته. لكن في نهاية المطاف، تستجمع ما يكفي من الشجاعة لكسر قلبك وقلبها. ستكون خائفا لأنك قد بذلت جهدا في العمل من أجلها لدرجة لن تتمكن بعدها من التخلي عنها، حتى لو شعرت بالآسى.
في النهاية، أود أن أقول أن ذلك يُعد واحدا من أهم قراراتي التي أخذتها في حياتي. لم يكن لأني رحلت عن مدير تعاملنا معا كأسرة، أو بسبب الراتب الذي بالكاد له نظير في مكان آخر، أو الخدمات والامتيازات التي لا تُضاهى في أي شركة أخرى، لكن لأنني علمت أن تركي لهذه العلاقة من شأنه أن يفتح المجال لما هو أكثر من ذلك بكثير.
المشكلة مع جوجل، مثل المشكلة مع شريكة سابقة فُزت معها بعلاقة رائعة، والآن تشعر بالذنب حيال نواياك للرحيل. كل تلك الامتيازات التي ذكرتها قد أصبحت لا شعوريا هي نفسها محفزات بالنسبة لي. كان من الرائع أن تعمل في واحدة من الـشركات الـ 500 الأغنى في العالم – وواحدة من أكبر خمس شركات في العالم من حيث القيمة. وجاهة منصبي بين أقراني، وجاهة الراتب والمزايا التي توفرت لي ولعائلتي. لقد كانت غطاء السلامة الذي تخشى الآن أن تبتعد عنه. عدم معرفة كيف ستكون الامور بعد أن ظلت تسير بطريقة معينة لفترة طويلة. إنه شعور الذنب الذي ينال منك ويثير في نفسك عديدا من الأسئلة: ألا ينبغي أن أكون ممتن لجميع تلك الوجبات المجانية، وجلسات المساج، وأيام العمل من المنزل ؟، … الخ، خصوصا بعد تسعة أعوام كاملة؟ الحقيقة هي، أني كنت ممتنا للغاية، بل مُنعما – وأورثني هذا شعورا أسوأ. لأنني أدركت أنني أريد الرحيل
إذا كنت صريحا معكم اليوم، فسأقول أن الدافع الحقيقي لتركي جوجل والانضمام لكريم هو دافع مزدوج. كان ذلك بسبب الخوف والنهم والإستياء. والخوف ربما كان هو الجزء الأصعب، الخوف من الانتظار لفترة أطول ثم أُدرك ذلك فجأة بعد فوات الأوان. الخوف من شعور الاستقرار الآمن والمريح، الخوف أنني لم أُراهن بعد رهاني الخاص. قد يُعتبر هذا الأمر بمثابة مفاجأة لكم، نظرا لأني على وشك بلوغ الـ 50 من العمر، ولكني الآن أكثر نهما مما كنت عليه من أي وقت مضى في حياتي كلها. نهما لترك أثرا أكبر مما تركت من قبل .نهما لدفع وقيادة التغيير حيث أؤمن أنني سأحدث فارقا. نهما لإلهام وقيادة الشباب الساعين لإمتلاك مقدراتهم ومستقبلهم، لتحدي وتمزيق الوضع الراهن وتشكيل طريقهم الخاص. لم أكن راضيا بالمرة عن الشركات العالمية التي تسعى دوما لصنع منتجا رائعا ثم التوسع في الدعاية لذلك المنتج بشكل لا نهائي في جميع أنحاء العالم. كنت مستاء لأن تلك الشركات غير مبالية إطلاقا بالقيم المحلية للدول التي تعمل بها. كنت مستاء أننا كمنطقة لم ينظر إلينا باعتبار أننا منطقة جديرة بإخراج شركات مليارية، توفر خدمات بجودة عالمية مماثلة – إن لم يكن أفضل . مستاء من النظر لهذه الفكرة على أنها ستبقى دائما حلما بعيد المنال
بالنسبة لي، “كريم” يمثل أكثر من مجرد حلما .. تُمثل وعدا .. وعدا أن شركة محلية، من هذه المنطقة، صنعها أفراد نشأوا فيها واستوعبوا مشاكلها، يمكن لتلك الشركة أن تُلبي نداء حل تلك القضايا. فكرة أنها لن تبحث قضاياها بنفس أسلوب الشركات المتعددة الجنسيات، وليس عن طريق تطبيق قانون عالمي شامل مع عدم الاهتمام بما يريده المستخدمون. فالأمر متعلق بالالتزام بالقوانين المحلية بشكل كامل وحقيقي، واليقين من أننا جزء من المجتمع. وأننا سنقوم بتوفير معيارا لا نظير له من الخدمة؛ وأن جميع الأطراف المعنيين ، سواء نحن، أو الحكومة، أو قادة العمل، أوالمستخدمين سنكون جميعا رابحين.
بعضنا – مثلي – لن يكون سعيدا إلا بترك إرثا يتجاوز الزمان والأشخاص، إرثا يُعيد تعريف عصرا بأكمله. أؤمن بأن عملي مع “كريم” حان لتحديد هذا العصر. إنه عصر التغيير والقفز إلى الأمام. لمرة واحدة نحن – كمصريين وعرب – ستكون فرصتنا للمبادرة بهذا التغيير، تغيير المستقبل ليصبح أكثر ملائمة لنا، واختيار المسار الذي يتناسب مع قيمنا الخاصة، مهمتنا الخاصة ورؤيتنا الخاصة. أعرف أن أبنائي سيبلغون قمما لم لأتصورها في حياتهم العملية. بعضنا يرضى بترك إرثا عبارة عن ذكرى طيبة. لكن الذكريات تتلاشى.
تحية للذين يعملون بجد لجعل هذا المكان أفضل لنا اليوم، لأطفالنا غدا ولأطفالهم في السنوات القادمة. وتحية لأولئك الذين جاءوا لندرك التمكين لأنفسنا ولنعيد تشكيل عالمنا من خلال سد الثغرات التي نراها .. والتي نراها نحن فقط. تحية المساعدة في تمكين مليون مصري في غضون السنوات الثلاث المقبلة. تحية الإحتواء والتمكين، وتكافؤ الفرص.