نقلًا عن البوابة
لو أطل الرئيس السادات على مشهد احتفال المصريين بالذكرى ال43 لحرب أكتوبر، لشعر بمزيد من الارتياح، وكثير من البهجة، فالرجل الذى عبر الهزيمة لا يزال سببا فى شعورنا بالفخر، وقليلة هى الأشياء التى ترمى بالفخر فى قلوبنا الآن، فى ظل مناخ تسيطر عليه الريبة والتشكيك والسخرية من كل وأى شئ، سيعرف أنه منح هذا الشعب يوما من أيام عزه، نستدعيه ونستحضر أبطاله، نتقرب الى الله بحبهم، ونضع قبلاتنا على جباههم، فلولاهم لظلت الهزيمة تأكل قلوبنا جيلا بعد جيل.
لكن ورغم ذلك كله، فإن السادات لن يتخلص من الغصة التى مات وهى عالقة فى حلقه.
هل تريدون تلخيصا غير مخل بما فعله مصريون برئيسهم المنتصر حيا وميتا؟
انهم كسروا بخاطره، بكل ما للكلمة من دلالات نفسية، وآثار معنوية، جرى هذا من اللحظة الاولى التى أصبح فيها رئيساً.
كان من الصعب على أى من رفاق عبد الناصر أن يملأ المكان والمكانة التى احتلها فى قلوب وعقول المصريين، وهى مكانة صنعتها البروباجندا ربما بأكثر مما فعلته انجازاته على الأرض، كان عسيرا على أحدهم أن يجلس فى نفس مقعده، يرتدى ثوبه، ويقنع الشعب المتمرد حتى على نفسه، بأنه فرعون معبود، فى وطن لا يقدر أبناؤه الا الفراعنة العظام، ولا يوقع بكلمة الاحترام والتقدير الا للآلهة الكبار.
قدر السادات أنه جاء بعد عبد الناصر، الرئيس الذى تحار فى علاقة المصريين النفسية به، وهى العلاقة التى دفعت شاعرا بحجم أحمد فؤاد نجم لأن يقول فى أريحية تعكس حالة مركبة ومعقدة من المشاعر: وإن كان جرح قلبنا… كل الجراح طابت.
كان الأمر مع السادات مختلفا، فرغم أنه لم يترك على أجساد شعبه جراحا تماثل جراح عبد الناصر، الا أن جراحه لم تطب، وأعتقد أنها لن تطيب، ليس لأن المصريين لا يغفرون ولا يسامحون، ولكن لأن هناك من يواصل العمل على تشويه صورة رئيس كان منتصرا، فهم لم يقبلوا منه انتصاره، رغم أنهم قبلوا من عبد الناصر هزيمته، وطبطبوا عليه، ومنحوه فرصة ثانية.
فهم السادات نفسية الشعب المصرى بما لا يتخيله أحد، عرف أن شرعيته الوحيدة كرئيس، أنه جاء باختيار عبد الناصر له، لعب على هذا الوتر جيدا، عندما دخل الى مجلس الأمة رئيساً وقف أمام تمثال نصفى لعبد الناصر يتوسط المدخل، وانحنى له، وعزز ذلك بقوله أنه يسير على خطى الزعيم.
انتظر السادات تقديرا ممن يحبون عبد الناصر، الذين يواجهون الرئيس الجديد بالهتاف لمن رحل والأرض محتلة والكرامة مهدرة، لكنهم سخروا من كلامه، واتهموه أنه يسير على خطى عبد الناصر بأستيكة، دون أن يضعوا فى اعتبارهم أن الدنيا تغيرت، وأن عنتريات عبد الناصر التى لم تقتل ذبابة، لن تكون مناسبة لإدارة صراع يحتاج لمن يملك الحيلة ويفهم تعقيدات السياسة، أكثر مما يحتاج لمن يهدد ويتوعد ثم لا يكون أمامه الا أن يتلقى الصفعات المهينة.
كان غريبا أن يهتف المصريون بعد وفاة ناصر: عبد الناصر يا عود الفل من بعدك شفنا الذل، والسؤال: أى ذل الذى يتحدثون عنه، والرئيس الذى سخروا منه وكسروا مجاديفه، هو الذى وضعهم على أول طريق الكرامة، بكسر عدو كان يذل المصريين بما فعله بهم فى العام ٦٧؟
نرشح لك: محمد الباز يكتب: السيسى ونظرية الغلط والزلط
هل صدق من قال أننا شعب يعشق جلاديه؟
أعتقد أنه صدق تماما، فالسادات لم يكن جلادا، ولكن كان داهية، ربما لم تكن تشغله صورته، بقدر ما شغله تحقيق إنجاز على الأرض لصالح وطنه وشعبه، اعتقادا منه أن هناك من يقدر ما فعله، فيمنحونه حقه كاملا دون أن ينقصوا منه شيئا، لكنه كان مخطئا، ففى مصر ليس مهما ما تفعله، بقدر ما تقوله ويقوله الآخرون عما تحقق على الأرض.
بعد حرب ٧٣ أصبح السادات يحكم بشرعية الرئيس المنتصر، بهتت عليه بدلة عبد الناصر، لم تعد تناسبه، انتظر اعترافا بالجميل، لكن المصريين كسروا بخاطره، قالوا ان عبد الناصر هو الذى حارب، أليس هو من قام بحرب الاستنزاف؟ أليس هو الذى أعاد بناء القوات المسلحة؟ أليس هو الذى وضع خطة الحرب؟ أليس هو الذى حدد الموعد وأخذ القرار؟
وعندما تسأل هؤلاء عن الذى فعله السادات تحديدا؟ تجدهم يحملونه المسئولية عن الثغرة، وحتى يكيدوا له، يقولون أن أكتوبر نصر عسكرى وهزيمة سياسية، أو يتغوطون فى وجوهونا بقولهم أنه نصر بطعم الهزيمة.
وقف السادات فى وجه الجميع ليقول لهم: أنا الرئيس المنتصر، لكنهم لم يقروا له بذلك، تحرشوا به سياسيا وإنسانيا،. أساءوا اليه وجرحوه، وقبل أن تقول أنهم فعلوا ذلك لأسباب موضوعية، سأقول لك أن الموضوعية تقتضى أن أقول لك أنك تجانب الحقيقة وتتجاوز الصواب.
لقد تم نحر السادات سياسيا وإنسانيا لأسباب شخصية وبدوافع ذاتية بحتة.
اعتقد رجال عبد الناصر الذين تحولوا الى مراكز قوى، أنهم قادرون على احتواءه، تحويله الى دمية بلا حول ولا طول، يتسلون بها، فهم الحاكمون الفعليون للبلاد، وهو ليس الا خيال مآتة يحركونه على المسرح، ينفذ ما يريدون دون اعتراض أو سؤال، ولما وجدوا أنه ليس كذلك، تآمروا عليه، ولما أمسك بهم جميعا وألقى بهم فى السجون، قالوا أنه يحارب صورة عبد الناصر فيهم، رغم أنهم لم يكونوا الا مجموعة من الأفاقين يسترزقون باسم عبد الناصر وسيرته.
بدأت الحرب المدنسة على الرئيس السادات بعد أن أقصى رجال عبد الناصر، لم يتصوروا هم وأتباعهم أن هذا الرئيس الذى سخروا منه، وحولوه الى مرمى للنكت، محمود السعدني دشنها بنكتته: عبد الناصر موتنا من الخوف والسادات هيموتنا من الضحك… تعاملوا معه باستخفاف، ونقلوا استخفافهم للشعب الذى لم يقصر هو الآخر فى السخرية والتنكيت على رئيس كان حريصا على تأكيد أنهم منهم.
قد يكون من أسباب جرأة المصريين على الرئيس السادات أنهم عرفوا أصله وفصله، قرأوا قصة تشرده وصعلكته، كان رجلا يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق، ولذلك لم يقبلوه رئيساً مكتملا، فهم لا يقرون بدينهم الا للآلهة أو لأنصافها على الأقل،، ولأنه لم يجعل من نفسه إلها، فقد استهانوا به.
فى العام ١٩٧٧ جلس السادات بين رجال حكومته الذين كانوا يخشون زيادة الأسعار، يومها قال فى أريحية من يعتقد أن الشعب يحمل له فضله وجميله: قرش ولا قرشين زيادة مش مشكلة، أنا عارف ان ولا دى هيستحملوا، لكن أولاه لم يتحملوا، خرجوا عليه، هتفوا ضده، صرخوا فى وجهه، أحرقوا صوره، ولو وصلوا له يومها لقتلوه.
بعد مظاهرات الجوع التى أصر السادات على تسميتها بانتفاضة الحرامية كره السادات القاهرة، بل لن أكون مبالغا إذا قلت أنه كره كل شارع وحارة وميدان هتف المصريون فيها ضده، لم يكن يستقر فى مكان، كان يتنقل. عبر استراحاته الممتدة على طول الجمهورية وعرضها، لا يستقر فى مكان لأنه بات يكره الأماكن، ولا يركن إلى أحد، لأنه لم يكن يرى نظرة الإعجاب به ولا بعمله فى عيون أحد.
هل تريدون ما هو أكثر من ذلك؟
كان السادات ناويا على السلام ما فى هذا شك، لكنه كان يمكن أن يحصل من سلامه على مكاسب أكثر، لو أن الشعب كان فى ظهره، لكنه ذهب الى تل أبيب وبعدها الى كامب ديفيد وهو يعرف فى قرارة نفسه أنه يسير وحده، دون سند ولا معين، كان يعرف تماما أن ظهره عاريا، ولا أحد يمكن أن يستره، لقد فقد نظرة الإعجاب فى عيون شعبه، فراح يبحث عنها فى عيون آخرين، وهو ما فهمه الأمريكان والإسرائيليين، فلعبوا عليه جيدا، نفخوا فيه، جعلوا منه الشخصية الأهم والأكثر تآثيرا فى العالم، عبر استفتاءاتهم وصحفهم ومحطاتهم التليفزيونية، ولأنه كان يعانى من كسر نفسى هائل، فقد صدق كل ما قالوه عنه، لأنه كان يريد أن يصدق هذا تماما.
لقد مات السادات وهو مذهول، اجتهد من اجتهد وقال أنه قال فى مواجهة خالد الإسلامبولي ورفاقه الذين قتلوه: مش معقول، وفسروا ذلك أن السادات لم يكن يتخيل أن يقتله أحد من جيشه، لكن فيما أعتقد أنه ذهب عقله فى اللحظة التى أدرك فيها أن كسر الخاطر وصل الى منتهاه، فمن خططوا لقتله، فعلوا ذلك يوم نصره، وفى ساحة استعراضه العسكرى، فهل هناك نكران للجميل بالنسبة له أكثر من ذلك؟
الضربة الأكبر جاءت للسادات بعد موته، لم يشعر بها، لكن مؤكد أنه عانى منها فى قبره كثيراً، أحدثكم عن الكتاب الأكثر انحطاطا فى تاريخ مصر، وهو كتاب ” خريف الغضب” الذى كتبه هيكل كاهن الناصرية الأكبر، بكل ما وضعه الله فى نفوس البشر من حقد وكراهية وغل، لم يكن كتابا موضوعيا، بقدر ما كان كتابا ملعونا ووثيقة اتهام ومحاولة لاهالة كل تراب الأرض على وجه زعيم قدم الكثير ولم يجد حتى من يثنى عليه مجرد الثناء.
لا أكتب عن الرئيس السادات هنا من زاوية سياسية، فهو بالنسبة لى رئيس له ما له وعليه ما عليه، له انتصاراته واخفاقاته، التى بخل أحمد فؤاد نجم بتوصيفها كما فعل عبد الناصر : عمل حاجات معجزات وحاجات كتير خابت، ولكنى أدخل اليه من زاوية نفسية بحتة.
مات السادات وهو مكسور الخاطر، ولن تعوضه الاحتفالات بنصره بعد موته، حتى لو صنعنا منه أسطورة، فما الذى سيستفيده من ذلك؟ فكلمة ثناء واحدة فى حياته أفضل عنده من آلاف المجلدات من الثناء عليه بعد موته، لكننا تعودنا أن نأكل رؤسائنا، لا أن نمنحهم ما يستحقون فى الوقت المناسب، نجلد ظهورهم فى الوقت الذى يريدون فيه أن يسمعوا كلمة مدح واحدة، نخوض فى سيرتهم بما لا يليق، فى الوقت الذى ينتظرون فيه أن نوقرهم ونحترمهم، نسخر منهم وننكت عليهم فى الوقت الذى يواجهون فيه حروب المصير… فاللهم ارحم السادات وارحمنا أيضا، فلا نحن سنتغير… ولا هو سيحصل على ما كان يريده وينتظره.