“عام، يعوم، فهو عائم … ومعاومة”… أورد معجم الألفاظ الاقتصادية في لسان العرب من ضمن معاني لفظ “معاومة”: أن يحل دينك على رجل فتزيده في الأجل ويزيدك في الدين”.
وبهذا نكون قد انتهينا من شق المعنى اللغوي وعلاقة العوم والتعويم بالاقتصاد والعملات، ونذهب للشق الاصطلاحي الذي يفسر لنا معني عبارة “تعويم الجنيه” التي تحتل المرتبة الأولى الآن في الاستخدام، والأخيرة في الفهم.
بعيدا عن التفاصيل الاقتصادية المتخصصة التي تزيد الأمر التباسا وغموضا، فإن تعويم العملة يعني ببساطة أن ترفع الدولة حمايتها عنها، وتتركها تواجه العالم بقوتها الحقيقية وقيمتها الفعلية.
فكل عملة تقف وراءها الدولة صاحبتها، تدعملها وتحميها وتضع لها سعرا ثابتا مرتبطا بعملة عالمية، وهى في الغالب الدولار الأمريكي، فتربط الدولة عملتها بسعر ثابت مقارنة بالدولار، كأن تحدد مثلا أن عملتها تساوي 0.50 دولار أو أكثر أو أقل، وتختلف قيمة كل عملة بالنسبة للدولار حسب قوتها الاقتصادية والشرائية، وحسب مقدار الدعم والحماية التي توفرها الدولة لها.
لماذا تلجأ الدول للتخلي عن دعم عملتها؟ “التعويم”
في ظروف اقتصادية صعبة كتلك التي تمر بها مصر حاليا لا يكون أمام الدول سوى حل من اثنين لا ثالث لهما، إما الاستسلام انتظارا للحظة الانهيار وإعلان الإفلاس، وإما التحرك في محاولة لإصلاح الاقتصاد بأسرع طريقة، حتى ولو كانت مؤلمة، فالدواء كله مر، والعلاج يتطلب جراحة مؤلمة في كثير من الأحيان.
وأول خطوات التحرك نحو إنقاذ اقتصاديات الدول، تكون باتباع سياسات اقتصادية يطلق عليها (إصلاحية)، واختيار لفظ إصلاحية يعكس بوضوح الاعتراف بوجود عوار واضح وصريح في السياسات السابقة يجب علاجة فورا، وهذا العوار الواضح الصريح يراه المتخصصين في الاقتصاد ومستشاري البنك الدولي وصندوق النقد في التخلي عن دعم الجنيه، وتركه للظهور علنا بقوته الحقيقية.
نتائج التعويم (للدولة – للفرد)
وإذا تعاملنا مع فكرة بدء الإصلاح بتحرير سعر الصرف والتخلي عن دعم الجنيه باعتبارها حقيقة، فلأن للحقيقة وجوه كثيرة يجب أن نعرض هذه النقاط:
أولا: تعويم الجنيه لن يكون كله شر، ومثله مثل أي قرار يتوقف نجاحه على طريقة تطبيقه، فتعويم الجنيه “تخفيض قيمته” سيخفض قيمة المنتجات المصرية كثيرا في الأسواق العالمية، وسيمثل الاستيراد من مصر مكسبا للمستوردين والمستثمرين الأجانب، مما سينعكس على زيادة في الصادرات المحلية للخارج، وسيؤدي هذا إلى زيادة الاستثمارات والصناعات المحلية، وتشهد الصناعة المحلية ازدهارا عانينا طويلا من غيابه منذ عصر الانفتاح.
ثانيا: انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار، ستجعل الاستيراد من الخارج مرتفع التكاليف، وستزيد بقوة أسعار المنتجات المستوردة، ولن تقدر شريحة كبيرة من مستهلكيها على الاستمرار في شرائها، وفي هذه الحالة ستلجأ تلك الشريحة للمنتج المحلي (نأمل أن يكون متواجدا ويتمتع بقدر مقبول من الجودة).
النقطتان السابقتان هما النصف المملوء من الكوب، الذي يراه أصحاب النظره المتفائلة الإيجابية، وتأثير التعويم على اقتصاد الدولة … نظريا.
أما على مستوى الفرد، فإن هذه الخطوة من شأنها بكل وضوح وصراحة ودون مواربة أو لعب بالألفاظ، التسبب في إفقار أبناء تلك الدول، مع اختلاف درجة الإفقار، الجميع سيتأثر ويشعر بفقده درجة من درجات سلمه الاجتماعي، لكن الطبقة التي ستشعر بقوة وتتأثر بشكل لن يخفى على أحد هى تلك الطبقة الفقيرة أو الشريحة الأولى من الطبقة المتوسطة (إذا اعتبرنا أننا لدينا طبقة متوسطةة في مصر)، الذين نطلق عليهم لفظ “المستورين”.
فكل التقارير العالمية والمحلية التي تناولت الموضوع، مهما كانت متفائلة ومبشرة بنتائج هذه الخطوة، لم تنكر حقيقة واحدة أجمع عليها الكل، وهي أن هذه الخطوة ستبب المزيد من الإفقار للطبقات الفقيرة.
هل هذا الكلام يعني ألا نأخذ هذه الخطوة “الإصلاحية” ونستسلم انتظاراللانهيار الكامل والتام للاقتصاد؟؟
لقد حدث هذا بالفعل في السبعينيات، فيما عرف بـ”انتفاضة الخبز” التي جرت في أيام 18 و 19 يناير 1977، رفضا لرفع أسعار عدد من المواد الأساسية، الذي قرره الدكتور عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية آنذاك، طبقا للاتفاق -أيضا- مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتدبير الموارد المالية الإضافية اللازمة، وقد قرر الرئيس السادات وقتها التراجع الفوري في هذه القرارات.
لكن ما حدث في السبعينيات من التراجع عن هذا القرار والبقاء على الوضع كما هو، أصبح الآن ترفا غير متوفر ولا ممكنا في وقتنا الحالي الذي تفاقمت فيه الأزمة الأقتصادية لأسباب متشابكة وكثيرة، وليس كما يخدعوك ويقولوا لك بسبب ثورة يناير.
المهم … كما قلنا قبل عدة فقرات: تعويم الجنيه لن يكون كله شر، ومثله مثل أي قرار يتوقف نجاحه على طريقة تطبيقه.
أي قرار يتوقف نجاحه وفشله، ومروره بأمان أو خلق المزيد من الضحايا على طريقة تطبيقه والانتباه جيدا للطبقات التي ستمر أولا تحت مقصلته.
فهناك عدة نقاط يجب الانتباه لها قبل اتخاذ مثل هذه القرارات المصيرية ومنها:
– التوسع في ضم المزيد لمظلة الدعم والرعاية، والاستعداد لاحتواء طبقة “المستورين” التي ستنضم نتيجة تعويم الجنيه للفقراء.
– عدم التعامل مع مظلة الدعم والرعاية كواجهة إعلانية دعائية، وتفريغها من مضمونها، عن طريق زيادة سعار السلع المدعومة في بطاقات التموين مع ثبات المبلغ المخصص لكل فرد كما يحدث الآن.
– طرح رؤية مبسطة وواضحة وحقيقية للخطوات الأولى للإصلاح وبرنامجها الزمني بالتفصيل للحوار المجتمعي من خلال الرئيس شخصيا، لا من خلال وجوه إعلامية فقدت مصداقيتها وأشياء أخرى.
– الرقابة الواعية على الأسواق دون تفريط ودون خنق غير مبرر للحركة التجارية، وهو ما يحدث حاليا للأسف وظهرت تجلياته مؤخرا في أزمة السكر.
– وضع خطط اقتصادية قريبة المدى ومضمونة النتائج، حتى يشعر الشعب أن الخطة الإصلاحية التي يدفع فاتورتها، ستؤتي بثمارها فلا يتململ سريعا.
– عدم الإنفاق على مشاريع كبرى وضخمة تستنزف أموالنا بهدف رفع الروح المعنوية للشعب، فروح الشعب المعنوية لن يرفعها سوى رفع قيمة الجنيه الذي سيرفع قامته وهامته بعدما أحناها الفقر.
الوضع الاقتصادي صعب ويتطلب تكاتف وتعاون كل أفراد الشعب، حقيقة لا جدال فيها، وواجب وطني على كل مصري، وتحمل فاتورته ليس سهلا، لكن المصري استطاع ويستطيع تحمل الصعاب من أجل وطنه وأبنائه.
بشرط أن يكون هناك أمل في بكرة … أن يكون هناك مستقبل للأبناء، حتى لا تكرروا السؤال: سايبينا وماشيين ليه؟